الفكرُ أَثْمنُ وأجلُّ ما وهبه اللهُ لعباده ، ولذلك فهو لا يُولد تامًّا ، ولا مستويًا ، ولا ناضجًا ؛ وإنَّما يتمُّ ، ويستوي ، وينضجُ بوسائل متعددة ، ومعطيات مختلفة ، فإذا لم تتوفر تلك الوسائل ، وتلك المعطيات كان التَخلّف والقصور. والعقل المستنير المصاحب للخبرة هو وحده الذي يسعى إلى أدوات النّجاح ، ويبصّرها ، ويقرّبها ، إلاّ أنَّه عنصر نادر في كثيرٍ من شؤوننا ، نبحث عنه في كلِّ مكان فلا نجده! ولا شكّ أنَّ بلادنا تزخرُ بمفكرين ، وباحثين ، وعقلاء ؛ ولكنَّنا لا نكاد نجد هؤلاءِ في المشاركات الفكريّة المحليّة إلاّ في أضيق الحدود ، حتّى كادت أنْ تغيب ؛ بل غابت عنّا تجلّيات التَّجاذبات الفكريّة بين المفكرين. لا يمكن لأيّ أمّة من الأمم أن ترتقي بنفسها ، وتضع لها مكانًا للتّربع ، وهي غُفْل عن معالجة قضاياها الفكريّة ، ومحاولتها الجادّة في طرْحها على دائرة النّقاش ، والمحاورة ، والاختلاف ، وهذا ما يدفعني إلى الزَّعم بأنَّ الجانب الفكريّ هو المنعطف الذي غاب ، أو غيّب عن نوادينا الأدبيّة ، مع تفهمي الجيّد للدور الذي أُنشئت من أجله ؛ ولكنَّني مع ذلك ، لا أبرّئ ساحة تلك النوادي مجتمعة ، أو متفرقة من قضيّة جوهريّة لبّها مَن المسؤول عن تغيّيب القضايا الفكريّة عن ساحتها؟ فالشّعرُ ، والقصّةُ ، والرِّوايةُ ، وما يتبعها من فنون القول -منظومًا ومنثورًا- أخذت حقّها وزيادة من جميع الأندية ، فملتقى الرّواية قد شبعنا منه ، فلا جديد يحمله ، وملتقى الشّعر أصبح محل التَّنافس المحمود بين الجميع! إنَّ عمليةَ مسحٍ بسيطٍ لكلِّ الأنديّةِ -مع كثرتها- تعطينا مؤشرًا في غاية الخطورة ، فكلّ ما يُقامُ فيها لا يخرجُ عن تلك الفنون ، في ظل غياب محزن عن قضايا فكريّة في غاية الإلحاح ، في مقابل ما تكتنز به تلك النَّوادي من قضايا النَّقد الأدبي ، وما يتبعها من قضايا الشّعر ، والقصّة ، والرّواية ، مع إيماني بالعلاقة القويّة بين الأدب من جهة ، والفكر من جهة أخرى. دعوني أسأل سؤالي : لماذا أَسْقطت النَّوادي الأدبيّة بكامل تجلياتها الثّقافيّة أغلب القضايا الفكريّة القمينة بالنّقاش من برامجها وفعالياتها ، وبين ظهرانينا مجموعة من المفكّرين تحتضنهم الملتقيات والمؤتمرات الخارجية ، ويهشمون في داخل أنديتنا؟ إنَّني آمل أيّما أملٍ من نادي جدة بما يحمله من إرثٍ عريق ، وسمعةِ حسنة في إثارة الجديد ، دون أن يغيب عنَّي اكتساح منظومته الانتخابيّة طليعة من الشّباب النَّهم بالجانب الفكري ، ويأتي في المقدمة رئيسه الخلوق الأستاذ الدكتور عبدالله السلمي ، ونائبه الوثير الأستاذ الدكتور سعيد المالكي. فهل سيفعلها نادي جدة الأدبي (الثقافي!) ويخرج من سياقاته التي توارثتها بقية الأندية ؛ كي نراه مرتميًا في أحضان الهمِّ الفكريِّ بجوانبه المتعدّدة ، التي أزعم أنّنا في أشدّ الحاجة إلى مَن يحرّكها بصوت العقل ، لا بصوت (العاطفة) شعرًا ورواية؟!