أي نظام أو فكرة أو أيديولوجيا لا تحترم إنسانية الإنسان ليست جديرة بالبقاء ، ولا مقتدرة على الصمود أمام التحولات والتغيرات ، والأيامُ دُول حتى في منهجية العز والإذلال ، وذاكرة العربي متخمة بالظواهر السياسية والفكرية التي سادت ثم بادت وإن لذّتْ له العودة إلى تلك النماذج كلما حلّتْ به أزمة أو خنقته فاجعة ، إلا أنها عودة استجلاب الضوضاء لا عودة تسليط الأضواء ، ومن دون تحيّز لزمن أو نوعية لأي من تلك المركبات المعقّدة التي احتلّتْ الواجهة التاريخية لأمتنا العربية عبر قرون سنلحظ أن الإخفاقات المؤسفة طاولتْ معظمها ، علماً بأن الخطأ لا يتحمله فرد وإن كان زعيماً أو رئيساً أو خليفة معتبراً ، بل يحق السخط على الكيان بأجمعه طالما أنه ليس به رجلٌ رشيد ، فالمسلكية المعتمدة لكثير من النظم البائدة لم تحترم قداسة الإنسان باعتباره خليفة الله في أرضه والقائم بوحيه والفاعل الإيجابي في كونه ، وحتى لا أذهب أدراج التاريخ حاولتُ منذ زمن استعادة السياق التاريخي للخلافة العثمانية وتلمس مكامن خلل في امبراطورية بسطتْ نفوذها على معظم أرجاء كوكب الأرض طيلة ثمانية قرون ، إلا أنها لم تفلح في الحفاظ على مكتسباتها وأشرعتْ منافذ الاستبداد فتنامى نفوذ الفساد وتتابعتْ الأزمات وغدت المنظومة عاجزة عن مواكبتها أو تحجيمها بالحلول الجذرية ليتحول الكل إلى متفرج يراهن على مرور الزمن ، ولعل أجلى ملمح لذلك النمط من الحكم برز في إهمال فكرة بناء الإنسان والاشتغال على الأداء البهرجي والخلاف الشكلاني المُلحق الكثير من الأذى ببسطاء الناس وأوساطهم ، دون تفهم لاحتياجات الفرد وطموح المجموع ، وإن كان بعضنا يتملّكه الحنين إلى ما فات و يحاول استعادة الأنماط السالفة وحصر التجارب التاريخية للاقتداء بها بعد تكييفها ربانياً وإضفاء هالة من القداسة تالياً ليظل يحلم بإعادة تطبيقها متجاهلاً أن فن الحكم لا يرتبط بفكرة القدوات، إذ لكل مرحلة ظروفها ومخرجاتها ، ولكل زمن معطياته وقدراته ، ولعلي أُدرك أن قراءة التاريخ لا ينبغي فيها أن ننحاز في الجانب التأثيمي كون معظم رجالات تاريخنا العربي أخفقوا في امتحان البناء والإدارة ومرد ذلك إلى أن مؤسسة الحكم سواء تمثلت في مجلس حكم أو حزب أو فرد ترى نفسها مؤهلة للعمل ومؤهلة لنقد نفسها ، وربما تبنى بعضهم مذهب (ما دُمتُ على الكرسي فأنا قادرٌعلى نقد نفسي) ولو توفر الحدّ الأدنى من وعي لهؤلاء الجناة على شعوبهم وعلى ذاكرة الأجيال المستقبلية لكانوا أسهموا في بناء دولة مؤسسات تصنع من الإنسان وطناً سوياً وتهب المواطنين مناعة فكرية أدبية وأخلاقية وعلمية واقتصادية تُجذّر حبهم وولاءهم وانتماءهم لأوطانهم ليكونوا مرآة لصاحب السلطة تعكس له واقع الحال وتحذّره من سوء المآل ، ف (العسكرتاريا) برغم براعة قدراتها في بعض أرجاء عالمنا العربي إلا أنها فشلتْ في حماية زعماء تساقطوا تباعاً ونفوسهم تمطر التياعاً على فوات فرص الإصلاح ، وسنظل نختزن الأمل في كل محطة إخفاق بحكم أن المستقبل أمامنا عريض.