في أبها المتلفعة بالغيوم كان اللقاء الشعري المتألق بمن دعا ومن حضر من أساتذة الجامعة ورجال أبها وشبابها ، وكان الاحتفاء الجميل من الأخ الكريم الدكتور محمد الحازمي ، صاحب الديوانية ، والمحتفي بلغة القرآن وأدبها شعراً ونثراً على مدى ثلاثة عشر عاماً. ديوانية أدبية فكرية تقام أول يوم أحد من كل شهر ، يستضيف صاحبها عدداً من الأدباء والشعراء والمفكرين في محاضرات وأمسيات تتميز بدفء المشاعر ، وبأجواء ثقافية راقية يصنعها حضور هذه الندوة المتميزون بالثقافة والمعرفة ، والتذوق الأدبي الأصيل. رتب للأمسية الأبهاوية الحازمية الدكتور محمد الزمزمي طبيب الأسنان المحب للأدب والثقافة ، وكان يوم الأحد في الأسبوع الأول من شهر الله المحرَّم هو موعدها ، وكان سفري إلى أبها من جدَّة سفر المنتقل من جوًّ دافئ إلى جوًّ بارد تصل درجة حرارته إلى اثنتي عشرة درجة ، وياله من سفرٍ متمِّيز. كانت الغيوم المتكاثفة بصورة عجيبة هي المستقبل الأوَّل للطائرة التي أتاح لنا ارتفاعها رؤية ذلك المنظر البديع ، جبال بيضاء تعانق بعضها في أشكالٍ تحيَّر الذهن البشري أمام تناسقها وتنوعها وتراكمها حتى لا يجد الإنسان مجالاً للتعبير إلا بترديد (سبحان الله العظيم) وهي كلمة معبَّرة تشرح صدر قائلها ، وتشعره بأنَّ مثل هذه المناظر العجيبة لا يمكن أن تستوعب الكلمات جمالها ، وروعها ، فتكون (سبحان الله العظيم) هي المناسبة في هذا المقام. وحينما اخترقت الطائرة ذلك النَّدْفَ الغماميَّ البديع هابطة إلى مطار أبها ، برزت جبال أبها وروابيها ، وخارطتها العمرانية المنتشرة بين الجبال ، فازداد الذهن انبهاراً ، والقلب إعجاباً ، ورأت العين لوحةً من الطبيعة تسرُّ الناظرين. كانت الأمسية بعنوان جولة شعرية مع ما يسمَّى (الرَّبيع العربي) ابتداءًَ بتونس وانتهاءً بسوريا وبينهما مصر وليبيا واليمن ، وإنَّها لرحلة عجيبة في عالمنا العربي جديرة بأن تستثير الشعر ، وتهزُّ قوافيه هزَّا ، وتوُزُّ حروفَه أَزَّا. في ديوانية الدكتور محمد الحازمي تشعر بطعم متميز للقاء ، فالحضور حضور أدبي ثقافي متذَّوق ، يعرفون قيمة الكلمة الأدبية والصورة الشعرية ، ويفتحون لضيف الأمسية آفاقاً من بهاء الحس الأدبي المرهف ، والوعي بأبعاد ما تبوح به المشاعر من أحاسيس الشاعر ، وما تحمله الكلمات من أفكاره ومعانيه ومراميه. وصاحب الديوانية أديب يتميز بحبِّه للغة العربية الراقية حبَّاً عظيماً ، ولهذا فهو يرسم منذ أوَّل كلمة يقولها أفقاً رحباً للأصالة العربية ، والإبداع الأدبي ، فما يصل الضيف إلى مكبِّر الصوت ليبدأ حديثه ، إلا وقد عَرَف حقيقة هذا الملتقى ، وقيمته ، ومستواه. أما الشباب المتذوِّق للأدب فهم قُطْب رحى هذه الديوانية الرائعة فإذا رأيت مَنْ يحيط بهم من الأدباء الكبار والنَّقاد من أساتذة الجامعة وغيرهم ، علمتَ أنَّك في ديوانية أدبية باذخة ، وقد كان لمدير الأمسية الدكتور عامر الألمعي وهو طبيب أديب شاعر ذكرَّني بعلاقة الطب بالأدب ، دور آخر في صناعة جو أدبي متميِّز. أحيي ديوانية الحازمي الأحدية الشهرية وصاحبها وروَّادهَا ، وأحيي جبال أبها وأوديتها ، وضبابَ سودتها الذي يعانق أَشجارها وهضابها كلَّ يوم. إشارة : أبها ، وينتشر العبير وتهزُّ منكبها عسيرُ