سأبتدئ هذا المقال بفكرة تؤكد عدم فرادة الكتّاب من حيث هم أصواتٌ ظاهرة مقروءة ، هم لا يمثلون ذروة العقل لدينا قدر ما يمثلون صوتاً مسموعاً للعقل وحسب. هذا يعني ضمناً أن أصوات العقول التي لا تسمع قد تكون أكثر امتلاءً وأشدّ أثراً لو أنها سمعت ؛ ولذلك فإذا أنا قارنت نفسي بما أتصوره من عمق الملكات التي أغرقها الظلام ، فما الذي يمكن أن يجعلني على ثقة أنني سأقول قولاً لا يقوله غيري ، أو أطرح رأياً لا يمكن أن يطرحه غيري؟ أردت أن أبدأ الكتابة في (الشرق) بطرح هذه الفكرة ؛ لتكون نقضاً لتصوّر قد يكون في حكم المسلّمات ، أن هؤلاء الذين يكتبون للصحف هم أفخر ما يمثله العقل لدينا. هذا في الواقع غير صحيح ، وفي العادة حين يكون العقل البشري شديد الامتلاء ، ناصع الفكرة ، فإنه بالقدر نفسه يكون شديد النفي لنفسه ، وشديد القسوة في تقييمها ، وفي لومها ، والتقليل أحياناً من قوة أفكار نفسه. العقل يعطل نفسه وينفيها حين ترتفع مقاييسه ؛ فتتحول أفكاره في نظر نفسه إلى أفكار غير مجدية ، أو غير مميزة ، أو غير ذات قيمة. وبهذا الاعتبار فإن أغلب الذين يكتبون أفكارهم للصحافة المقروءة ليسوا هم ذروة العقل ولا ذروة الفكر في مجتمعاتهم. يمكن أن نقول إنهم ذروة المبادرة ، نعم ، وإنهم ذروة الإلحاح ، نعم ، وإنهم أحياناً ذوو نضج انفعالي أو عاطفي. لماذا أقول هذا؟ لنهتمّ بتأسيس مجموعة مسح معرفي مهمتها استقراء مشاركات القرّاء ، وتحسس التماعات عقولهم وتميزها. إن مثل هذه المجموعة قادرة بشيءٍ من التركيز على كشف مواهب غير عادية في الكتابة وفي الأسلوب وفي علوّ منزلتهم في الفكرة والرأي. من غير المعقول أن نظل أسرى لمواطآت في قيمة الكتّاب كثيراً ما تكون من صنيعة الإعلام نفسه أو من صنيعة الصحيفة نفسها. إن صناعة القيمة كثيراً ما تكون لعبةً إعلاميةً ونفسية شديدة المخاتلة ، ينبغي على الفكر الإعلامي أن يكون حذراً منها. أنا لا أقلل من شأن أحد ، إنما مهمة العقل اكتشاف العقل ، أن يكتشف العقل الذي يوازيه أو يفوقه ، وأن يعطيه الفرصة ليحول نفسه إلى وقائع ماثلة في مستوى الأفكار ، وفي مستوى المنجز المحسوس. نحن نتفق على أن الأفكار صوتٌ ظاهرٌ للعقل ، ليس هناك مشكلة أن نستكتب من نظنّهم الأفضل ، إنما ينبغي أن نتحسس الأصوات النائية أيضاً ، وأن نعلم أن القيمة للأفكار ليست للأسماء.