أذكر جيّدًا أنَّني كتبْت في هذه الزَّاوية ثلاثة مقالاتٍ متسلْسلة كلّها تصبُّ في خانة القيمة المركزيِّة لتراثنا العربيِّ والإسلاميِّ ، وكانت فاتحة هذه المقالات بعنوان (العودة إلى التُّراث) ، وثمَّ جاءَ من بعده (التُّراث: القداسة المصطنعة!!) ، وثمَّ أردفت ب(المصراع والواحد ..!!) ؛ وهذا الأخير جاءَ كتعقيبٍ على بعض ما وردني من ردود أفعال غاضبة تحمل بين ثنياها لغة عاطفيِّة أكثر منها موضوعيِّة. وبين يدي السَّاعة دراسة في غاية الموضوعيِّة ، لأستاذي الشَّاعر والنَّاقد الأستاذ الدكتور عبد النَّاصر هلال ، بعنوان (التُّراث بين مرحلة الدِّلالة وإستراتجيِّة الموقف .. قراءة في آليات الوعي النَّقدي المعاصر) نشرتها مجلة (جذور) الصَّادرة عن نادي جدة الأدبي: ج ؛ 30 ، محرم ، 1431ه. وهذه الدِّراسة سردت بين ثناياها الكثير من الرّؤى المتعلقة بمفهوم التُّراث ، وكيفية التَّعاطي معه ، ضمن سياقاته الاجتماعيِّة ، والنَّفسية ، والفكريِّة ؛ ومدى تقاطع تلك السّياقات مع المنظومة التُّراثيِّة - إذا صحت العبارة- ، فكان الدكتور ناصر هلال في غاية الوضوح والموضوعيِّة وهو في كلٍّ ناقلٌ أمين. ما يهمني في تلك الدِّراسة العلميِّة أنَّها تتساوق مع ما سبق وناديت به ، وتأييدًا لما ذهبت إليه في سياق تلك المقالات السَّابقة. دعونا نقرأ معًا ما يقول به الدكتور عبدالناصر هلال وهو يعطي المتعاطفين درسًا في آلية الموقف من التّراث: (فإنَّ الموقف منه لم ينبثق من خلال نظرة عاطفيّة أو انتماء قبلي متحمّس). مع هذا فهو يحدد لنا بكلِّ دقّة وأمانة مفهوم التُّراث في ظلّ الدِّراسات الحديثة ، مستنداً على ورؤى المفكرين والدَّارسين ، يقول: إنَّ (المسافة ليست كبيرة بين كلّ المفاهيم والتَّعريفات ، إذ تنصهر جميعها في اتّجاه واحد يعلن أنَّ التُّراث هو كلّ ما تراكم من تقاليد ، وعادات ، وخبرات ، وفنون ، وتجارب ، وعلوم في شعب من الشُّعوب ، خلال الأزمنة المتعاقبة). وبما أنَّ المفهوم يحمل في ثناياها كلّ تكل المعطيات ، (تقاليد) ، (عادات) ، (خبرات) ، (فنون) ، (تجارب) ، (علوم) ، فهو في الجملة يُؤخذ منه ويُرد ؛ فلا تثريب علينا من غربة ذلك كلّه وأخذ ما هو قمين بالأخذ ، وترك ما هو جدير بالتّرك. فليس كلّ ما هو (تراث!) يستحق منا التَّبجيل ، أو حتّى الالتفات إليه ، إلاَّ من خلال ما يثمره لنا ذلك التّعاطي من رؤى خلاّقة ، أو جوانب ذات قيمة تنفع الدّائرة الإنسانيِّة المتلاحقة ، وتتقاطع مع معطيات العصر ، ولغة الحاضر. وهذا ما يجليه لنا الدكتور عبد الناصر ، إذ يقول: (الإقامة في مناح المعاصرة لا تعني الانسلاخ من التُّراث أو التَّنكر له ؛ بل تفرض على الإنسان المعاصر أنْ ينظر إلى إرثه نظرة جديدة تتخلّص من العاطفة والحماسة وضيق الأفق ، وأنْ يحاول اكتشاف موقعه على الخريطة الإنسانيِّة ، واكتشاف ذاته من جديد). وتأكيدًا لذلك نراه يقول: (فالإخلاص للتُّراث ليس معناه محاكاة التُّراث أو اقتفاء خطاه ، لأنَّ احتذاءه والسّير معه معناه الدّخول في دائرة التَّقليد ، والتَّقليد ثبات ، يجرّد الأديب أو المفكر من ذاته القادرة على الخلق ، والابتكار ، والإبداع ، والإضافة ويصبح الأديب أو المفكر ظلاً باهتاً ، فهو يحيل وجوده الخاص إلى وجود الآخر). ولا يكتفي الدكتور ناصر هلال بذلك ؛ بل نراه يطالبنا بمواجهة هذا التُّراث ؛ ولكنَّها ليست مواجهة عبثية غير محكومة ، إنَّها (مواجهة تحمل في ذاتها الوعي والانتخاب والاختيار ، الذي يضفي على الذّات المدركة ملامح القوّة والقدرة). ويقدم الدَّارس خلاصة ما توصل إليه: (ومن خلال تعرضنا لموقف النُّقاد والدَّارسين والأدباء من التُّراث على المستوى الفكريِّ يتّضح أنَّ التُّراث ليس تركة جامدة ، محنطة ، ولكنَّه تركة حيّة ، تنطوي على كثير من الفعاليّات التي تستطيع أن تمنح الإنسان المعاصر قدرة على الامتداد في الآفاق ، والتُّراث ينطوي على الصّالح والطّالح ، فالإخلاص للتُّراث لا يكون باحتذائه أو السّير وراءه ، وإنَّماء بمواجهته ونقده ، وإعادة النّظر فيه من منظور التّجاوز ، بحيث نظيف إليه من أنفسنا شيئًا ، يكتمل الوعي بدوره التَّاريخي ، وهو الأمل المنشود حتّى يحقق التُّراث فعالياته في ظل هموم الإنسان المعاصر ومتطلباته). فهل نستوعب الدَّرس ونجرِّد دواخلنا من لغة العواطف ، ونستلّ من بين الأقواس ما يخدم حاضرنا ؟!