زيارتي الأولى لتونس، ولمدينة القيروان بالذات، للمشاركة في الندوة العلمية الدولية «الدين والجسد» (أيام 15-16-17 نيسان (أبريل) 2010) أدخلت الفرح الى قلبي على أكثر من مستوى. أوّلها، الراحة الّتي شعرت بها عند رؤية المدينة بتصميم عماراتها التي عكست على النفس هدوءاً وسكينة. فهناك تواصل بين الماضي والحاضر في القيروان (إذ سجلت اليونسكو المدينة العتيقة المسوّرة في التراث العالمي) والذي ضاع منّا في لبنان بسبب الحروب الأهلية وحروب الآخرين. فقد مزّقت الحرب جسدَ مدينة بيروت العتيقة وأزقّتها الضيّقة وزواياها، وأزال وجوه الباعة القديمة فيها. أمّا الصلة بين الماضي والحاضر فتكون بتراكم الأزمنة الحضارية، وباحترام الناس للمكان والذاكرة. مثلاً يوجد في القيروان أقدم المساجد الإسلاميّة في المغرب العربي (تم بناؤه في 50ه /670م)، يسمّى مسجد القيروان. ويرتبط اسمه بالوالي عقبة بن نافع، فاتح المغرب العربي في أيام معاوية بن أبي سفيان. والمسجد معلم إسلامي في هندسته ووظيفته وأخلاقه، وعرفنا أن هناك في القيروان لا يبنون عماراتهم وبيوتهم أعلى من مئذنة مسجد القيروان. وذلك تواضعاً منهم أمام علوّ المئذنة واحتراماً لإنجازات الماضي. ففي القيروان لا توجد حاجة الى الأبراج، ولا الى تقليد بيئة خارجة عن بيئتنا الصحراوية الأفقيّة، فلا حاجة للنظر من فوق. ثانيها، المستوى العلمي النيّر والجريء الذي عبرت عنه أجواء الندوة التي أقامتها كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في القيروان، مدرسة الدكتوراه برئاسة الأستاذ حمّادي المسعودي. في هذه الإطلالة على المقاربات المتنوّعة لموضوع الدين والجسد، موضوع الندوة، سمعنا لغةً عربيةً فصيحة وحداثيّة في آنٍ واحد، بسبب المدلولات الفكرية التي أزيح عنها اللثام في الأوراق البحثية. وقدّمها علماء وعالمات عرب مشارقة ومغاربة، وعلماء وعالمات من الجوار الأوروبي. تنوّعت المحاور في الجلسات العلمية التي امتدت على ثلاثة أيام: - متعة الجسد ومتعة النصّ في القصّة والرواية والقصيد. - الدين والجسد في النصّ الصّوفيّ - الدين والجسد المحظور - الدين والجسد- ثنائيّة الروح والجسد - الدين والجسد في قصص العشّاق سأذكر عناوين بعض المداخلات التي أثارت اهتمامي، ومن ثمّ أراجع ورقتين لاثنين من الناشطين في فريق حفريات في مقارنة النصوص. وذلك إعجاباً بهذا الفريق الذي أظهر تنوّعاً في المقاربات والمنهجيّات والوعي بما يقوم به من اجتهادات على النفس والمعرفة. والفريق يهدف من خلال ما يقوم به من نشاطات إلى: «السعي إلى التقدّم بمنظومة البحث العلمي الأكاديمي بالمؤسسات الجامعية في مجال الحضارات والأديان والثقافات، وإبراز كيفيّات التفاعل بين النصوص والشعوب والمجتمعات التي أنشأتها. والإسهام في فتح الآفاق لدى الباحثين التونسيين الشبّان على الفكر البشري القديم منه والحديث وحثّهم على التجديد والابتكار في مجال اختصاصاتهم لبيان أن المعرفة هي في النهاية صناعة بشريّة مشتركة وليست حكراً على جنس من دون آخر». هناك أوراق كثيرة مُثيرة بمواضيعها الجديدة مثلاً: بحث الشاعر المنصف الوهايبي الذي أيقظ الجسد لعباً في قراءة لكتاب جلال الدين السيوطي «رشف الزلال من السحر الحلال». وبحث رضا كرعاني حول جسد النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) في المتخيّل الإسلامي والذي قسّمه الى ثلاثة مداخل: جسد النبوّة والجسد الطاهر والجسد الخارق. وفي محور الدين والجسد المحظور، عولجت مواضيع من مقاربات فقهية وقانونيّة وأنثروبولوجيّة. مثلاً أشكلت علينا الأستاذة بثينة الجلاصي موضوع «أحكام الجسد في البيان والتحصيل (لابن رشد الجدّ الفقيه) بين التحريم والتحليل». ونقلتنا فاتن بن سالم الى أجواء السجالات الكلاسيكية التي أثارها ابن رشد الحفيد في قراءة شيّقة ل «سجال الغزالي وابن رشد في قضيّة بعث الأجساد». أمّا محور الدين والجسد في قصص العشّاق، فقد أخذ النصّان: «نشيد الأنشاد» و «قصّة يوسف» نصيبهما الكبير من الدراسات. فالأوّل «نشيد الأنشاد» يتبوّأ منزلة مهمة في الفكر العقدي اليهودي كما أخبرت زهرة الثابت التي قرأت «مفهوم اللذة في نشيد الأنشاد». وحللت هدى بحروني «اللعب بالجسد في نشيد الأنشاد» بين خطاب المحبوب للجسد وخطاب المحبّة له. وقوربت قصّة يوسف من منطلقين: واحدة في ما بين الجسد والجنس قدّمها لسعد العيّاري، وأخرى بين العري والستر قدّمها محمّد إدريس. وقد كان للتصوّف مداخلات عدة منها للأستاذة سعاد الحكيم، حول «تحوّلات الجسد عند الإنسان الصوفي». ولكاتبة المقال (د. حُسن عبّود) حول: «متنفّس الجسد لدى نساء الذكر في حاضرة بيروت». وهي تسجيل أثنوغرافي لإجراءات طقس الذّكر لدى نساء زاوية الطريقة التيجانية في بيروت المعاصرة. سأحاول في عجالة هذا الزمن مراجعة دراستين لفريق حفريات في مقارنة النصوص. الأولى بعنوان: «الجسد بين الحقيقة والخطيئة: قراءة في موقع الجسد من التجربة الصوفية» للأستاذ صابر السّويسي. والثانية «اللعب بالجسد في نشيد الأنشاد» للأستاذة هدى بحروني. سأبدأ بورقة السّويسي: قدّم لنا الباحث مواقف متنوّعة ل «صورة الجسد عند الصوفية وخلفيّاتها، وأساليب تطويع الجسد في خدمة التجربة بتوجيه طاقاته وتوظيف جوارحه لتحقيق درجة من الصفاء تسمح بمعانقة العالم العلوي وبلوغ الحضرة». ويكون ذلك عبر طقوس الذّكر والإنشاد الديني والرقص الجماعيّ، وجميعها، برأي الدارس، «تدلّ على ثراء تفاعل الصوفية مع الجسد وتنوّع أشكال الاحتفاء به لا مقصداً أو غاية في حدّ ذاته، إنّما معبراً أو جسراً يكفّر عن الذنب أو الخطيئة ليلج دائرة الصفاء والحقيقة». يقدّم لنا الدارس المداخل التي نجد بها مواقف لكبار المتصوّفة - من أبي حامد الغزالي، محيّ الدين ابن العربي، أبو عبد الرحمن السّلمي، أبو سعيد الخرّاز، شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي، أبو العزيز المهدوي، ابن خلدون، أبو القاسم القشيري، أبو نصر السرّاج الطوسي، أبو زيد عبد الرحمان بن محمّد الدبّاغ، تاج الدين أحمد بن عطاء الله السكندريّ – في تصوّرهم للجسد. حيث نجد ضالّتهم في هذا الموضوع في كلامهم عن آدم (والخطيئة) «فهو مفتاح لا غنى عنه لقراءة تجربتهم الدينية وتحديد خصوصيّاتها». ويدرج السويسي للإشكالية المداخل التالية: مدخل «خلق آدم حرصاً على الفصل والتمييز بين حقيقة الروح وطبيعة الجسد من جهة، وإثبات تعالقهما وتلازمهما من جهة أخرى». «حاجتهم الى ضبط طبيعة العلاقة القائمة بين الروح والجسد لأسباب عدّة، من أهمها حيرتهم حول ماهية الروح وحقيقتها». «مسألة صلة الروح بالحياة وبأجزاء البدن وفنائها أو بقائها ومصيرها». وتؤكّد هذه المباحث، كما يرى السّويسي، قيمة موضوع الجسد والروح في الثقافة الإسلاميّة، ودوره في تحديد ملامح هويّة الكائن البشري وسلوكه. وقد تنبّه المتصوّفة الى سلطة الجسد، وعملوا على التحرّر منه، وتعديل وجهته، عبر التعمّق في جوانب الذات البشريّة. ويستدعي الصوفية في مقارباتهم لموضوع الجسد والخطيئة إبليس وحوّاء الى جانب آدم. وفي هذا الجزء نقرأ طبعاً مواقف للمتصوّفة تُعتبر عنصرية ضدّ المرأة وضدّ المساواة في الخلق بينها وبين آدم والتي أقرّها الله تعالى في كتابه العزيز، القرآن الكريم. لكن المتصوّفة كابن عربي مثلاً نراه ينجذب الى الرواية التوراتية للخلق، أيّ بخلق حوّاء من ضلع آدم. مما يعني أن الأصل في الخلق هو آدم والفرع هي حوّاء، وهذا يتّفق مع منطق عنصري انحيازي لا أصل له في الإسلام. ويختبئ في خلفية هذه القراءة الخوف من الاعتراف بالمرأة، وما يتّصل بها من عاطفة على قدر من المساواة معها. يقول: «فافترقت الصوفية في تحديد مدى التفاعل مع الأنثى بين من ينادي بالقطع معها والانصراف عنها عبر اختيار العزوبيّة، وبين من يؤكّد ضرورة التواصل معها فلا يرى ضرراً من الزواج والاستجابة لحاجة الشهوة والغريزة تأسيّاً بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، واعتماداً على ما جاء في النصّ القرآني من آيات تلحّ على التكامل بين الجنسين». والجسد الديني في التجربة الصوفية هو جسد مقنن خاضع لعقائدها وقيمها وفهمها وتصورها للحقيقة الدينيّة. وهذه التجربة حوّلته عبر الرياضات والمجاهدات النفسيّة ولقاءات الذّكر الى طاقات تعبيريّة تحتضن المقدّس، وترمز إليه استنهاضاً بالإنسان واستعادة لكماله». ويشير السويسي الى أن «الجسد في التجربة الدينيّة ينتقل من طور العائق ليصبح عاملاً مساعداً وفعّالاً في إنجاح التعبّد ومقياساً له». اللعب بالجسد في «نشيد الأنشاد» لهدى بحروني بدأت بحروني دراستها بلفت النظر الى أهميّة اللعب، وأكبر دليل على هذه الأهمية هو ما نلعب به على مدار اليوم والسنة باليد وبالأرقام وبالكلام، أقصد بهذا الهاتف النقّال الذي أصبح لعبة الجميع كباراً وصغاراً. عرّفت الباحثة سفر «نشيد الأنشاد» المنسوب الى النبي سليمان، آخر الأسفار الشعرية الخمسة التي وردت في ثنايا العهد القديم. وهو نصّ لا يتعدّى الخمس صفحات من مجمل صفحات الكتاب. ثمّ عرّفت جنسه الأدبي، ومضمونه: «فقد ورد خلواً من النبوءات والعظات الدينيّة خلافاً لباقي أسفار الكتاب، زاخراً بمشاهد اللذّة والمتعة التي شرخت النصّ الأكبر وخدشت حياءه وأجبرته على مواجهة متناقضاته. وسببت الخجل للاهوتيين لما فيه من احتفاء باللذّة الحسّيّة وهيام بالجسد يتعارض مع تعاليمهم». وتذكر الباحثة التأويل الذي قام به آباء الكنيسة تّجاه هذا النصّ لخوفهم طبعاً من هذه اللوحات المرسومة باللذّة الحسّية. والنصّ هو قصّة علاقة حبّ بين محبوبة ومحبّ جعلا من اللعب ممكناً. إلا أن ما هو جديد في هذا الحبّ، وقد تنبهت له الباحثة «إن قوّة هذه العاطفة كانت أكثر تجليّاً في خطاب المحبوبة منها في خطاب المحبّ». فأحصت الكلمات في خطاب المحبوبة وفي خطاب المحبّ، وفصّلت تنويعات اللعب وتجليّاته بينهما من معيار «الجندر» للتحليل. فأظهرت الباحثة بذلك حساسيّة جندريّة لديها، وإن لم تسمِّ الباحثة منطلقها بذلك، إلا انّه يصبّ في هذه الدراسات الجديدة في الأدب واللغة والبيان. أيّ وضعت اللعب في خطاب المحبوبة مقابل اللعب في خطاب المحبوب لتكشف عن الثقافي والاجتماعي الذي يعكسه خطاب الحبّ الذي «يشهد تواتراً مكثّفاً للصوت الأنثوي». ورأت في خطاب المحبوبة: «لعبة الإثارة» حيث يعمل الجسد لحساب اللذة، و «لعبة الحضور والغياب» ما نسمّيه حين كنا صغاراً في لبنان «غمّيضة»، «لعبة الخفاء والتجلّي واستبدال الأقنعة» من أجل إثبات بلاغة الجسد وقدرته على خلق لا نهائي للمعاني، «لعبة السكون والحركة» يتجلّى تارةً تمثالاً ساكناً، لا يبرح مكانه، وتارةً يملي على الكون حركته أو إيقاعه، وأحياناً بين هذا وذاك. «وهو في شتّى هذه الأحوال لا يكفّ عن اللعب، فالتمثال لعبة، والحركة لعبة، والنوم انفتاح على عالم الخيال واعتراض على الواقع القمعي». ثمّ «لعبة الكتابة على الجسد بالجسد. لقد جعلت المحبوبة الجسد يعمل لحساب اللذّة وطوّعته لخدمة المتعة وهيّأت منه مسرحاً للعب. فماذا فعل المحبوب بهذا الجسد وما هي صورة الأنثى في خطاب المحبوب؟ هنا أنصح القارئ بالعودة الى الدراسة التي كشفت عن نوع علاقة المرأة اللصيقة باللغة مقابل علاقة الرجل بها في هذا النصّ المعبّر لا عن عنف النصوص بل عن الشعريّة الدينيّة في نصوص العهد القديم. هذه القراءة (الجندريّة) التي تتراوح بين الثقافي والطبيعي في خطابي الأنثى والذكر حول الجسد العاشق قراءة فرضتها طبيعة النصّ وخلفيّته الأركياك القديمة. حين كان الجسد غير مقموع بسلسلة من التابوهات والممنوعات التي لا تعترف بهذا العنصر المهمّ من حياة الإنسان. هذه القراءة الغنيّة بالتشبيهات بين الطبيعي والثقافي ننتهي منها، وكأننا قرأنا النصّ وفهمناه على تأويله. فاللعب أساسي في علاقة الحبّ وفي الحياة عموماً. والظاهر لنا أن الكلام عن الجسد فلسفيّاً وشعريّاً وفنياً وإعلاميّاً يلزمه هذا اللعب. وإلاّ عدنا الى عصر عبادة الأوثان والبكاء على جدليّة الموت – جدليّة الحياة.