الذي يجري اليوم في دمشق الفيحاء ، وما حولها من الأرض المباركة ، تقشعرّ لهوله الأبدان ، وتشتعل الرؤوس شيبًا ، فشلال الدم ، وهدير المجنزرات ، وقصف الزوارق الحربية ، وأزيز الرصاص يصمّ الآذان ، وسط صمت عربي ودولي لا نظير له. خمسون عامًا من الحكم الدموي الذي سنّ الاغتيالات ، وشرّع لتكميم الأفواه ، وأصدر أحكام الإعدام على كل مَن يخالف معتقد حزب البعث ، وحكم الشعب بقبضة حديدية أهدرت كرامة الإنسان ، وبددت القدرات البشرية ، وهجرت العقول المبدعة ، وأحالت الإنسان إلى ترس في آلة. نزار قباني ، وأدونيس ، ومحمد الماغوط ، وبرهان غليون ، وعلي وعبد الغني وسعيد الطنطاوي ، وعبد الكريم بكار ، وعدنان عرعور ، وآخرون كثر ، منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر عاشوا مشردين يحملون وطنهم في كلماتهم ، وعلى ظهورهم في المنافي ، ويحلمون بعودة إلى أرض الرباط التي قال عنها الطنطاوي ذات يوم: اللهم من أحرمني غوطة دمشق ، ونهر بردى ، وجبل قاسيون فاحرمه الجنة. اليوم تهب رياح التغيير ، وتدق أبواب دمشق المرابطة على الجرح منذ خمسين عامًا ، فيخرج المارد من القمقم ، وتخرج آلة الحديد والنار ، وكتائب الشبيحة تطارد غصون الزيتون ، وأصوات العصافير ، وهتاف الحناجر ، وتدك المساجد ، وتحرق المصاحف ، وتنكل بالأئمة والباحثين عن نسائم الحريّة. لكن دمشق ، ودرعا ، وحمص ، وحماة ، واللاذقية ، وحلب ، وإدلب ، وكل قرى الوطن ، وحجارته ، وزهوره البرية ، وعصافيره ، وفراشاته الملونة تعلن الخروج من السجن ، وكسر الأغلال مهما كان الثمن. ويتفنن الجيش والأمن مستعينًا بخبرات جيش القدس ، ومقاتلي حزب الله لإسكات هدير الأرض ، ولكن الأرض تأبى وتنادي بصوت واحد: ارحل .. ارحل. ويفرض النظام حصارًا رهيبًا على الناس والمدن ، ولكن أشواق الحرية تتعاظم فمن كل رصاصة ينبت أمل ، ومن كل قطرة دم يورق ثائر ، ومن تحت كل مجنزرة تهدر صرخة ، لقد قرر الناس ألاّ يحنوا رؤوسهم للعاصفة أخذًا بوصية محمد الماغوط الذي حذّرهم ألاّ يفعلوا ذلك خشية ألا يستطيعوا أن يرفعوها مرة أخرى ، فقرروا أن يجابهوا الرياح بأعاصير غصون الزيتون ، والصدور العارية ، وأغاني إبراهيم قاشوش. هذه الشام جمجمة الإسلام ، وفنار الحرية ، وأرض الرباط التي ستبقى منصورة لا يضرها من خذلها. الشام عجينة الممكنات ، وبوابة الفتوحات ، معلمة الحرية علمينا فقه العروبة يا شام فأنتِ البيان والتبيينُ علمينا الأفعالَ قد ذَبَحَتْنا أحرفُ الجرّ والكلام العجينُ علمينا قراءة البرق والرعد فنصفُ اللغات وحلٌ وطينُ علمينا التفكير لا نصرَ يُرجى حينما الشعب كلّه سَرْدينُ دمشق قررت أن تقول للظلام لا ، قررت أن تخرج من زمهرير الأقبية ، وأن تتسلق تلال الزنازين ، كما تتسلق البراعم من تحت الركام ، وتعلن ميلادها تحت ضوء الشمس. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.