في هذا الشهر الفضيل نردد أكثر من أي وقت آخر الإقرار الإيماني الجميل: (إياك نعبد، وإياك نستعين) في صلواتنا المفروضة وفي نوافلنا وفي التراويح وفي التهجد. هو إقرار نردده وقلما نتدبره ، مع أنه أصل كبير ومعنى جامع عظيم. ولو فعلنا لتغيرت كثير من أفعالنا وأقوالنا ولانعكس ذلك على مجمل تفاصيل حياتنا ، لكنها زحمة الحياة وتسارع الأيام وكثرة المشاغل وتعدد الملهيات وغياب النماذج الميدانية الصادقة .. تحبسنا عن خلوة متأنية مع هذه المعاني الجليلة الرائعة. وعبادة الله كما يقول علماؤنا ليست مقصورة على الشعائر والمناسك والحركات والسكنات ، وإنما هي معنى جامع يربط الجوارح بالقلب كما يربط القلب بالله عز وجل. وبقدر الارتقاء في درجات العبودية ومدارج الإيمان بقدر ما تترسخ هذه المعاني في النفس والسلوك. وأعلى تلك المنازل ما انضبط بذلك الشعور الغامر الذي يزن فيه صاحبه كل عمل يؤديه بميزان التعبد لله والخضوع له. هو عندئذٍ يأتي الفرائض والشعائر والنوافل لأنه يتعبد الله. وهو لا يظلم أحداً لأن الظلم ليس عبادة لله ، وهو لا يختلس ولا يرتشي ولا يكذب ولا يضرب ولا يعنف ولا يفجر في الخصومة ولا يغش في سلعة ، ولا يأكل مال يتيم أو يتاجر بلقمة عيش فقير لأن أياً من هذه ليست عبادة تقرب إلى الله عز وجل. وإياك نعبد تتجاوز الأفعال كذلك إلى الأقوال ، ومن الأقوال ما يقر ظلماً أو يسفك دماً أو يهدم فضيلة أو يعلي شأن منكر. هذا اللسان هو مطية الكثيرين نحو مال وافر أو منصب مغرٍ أو جاه عريض أو قدر في الدنيا رفيع. هذا اللسان (المسحوب) أحياناً دون رادع ولا زاجر، ما كان ليكون كذلك لو أدرك أن ما ينطق به ليس إلا عبادة يدخل بها ضمن (إياك نعبد) ، ويحقق بها غاية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). ما أجملها من مناجاة تمس شغاف القلب ، وما أجلها من لطيفة تلامس النفس المنتبهة اليقظة التي تتردد على مسامعها هذه العبارة الربانية الموجزة عشرات المرات في كل يوم من أيام هذا الشهر المبارك.