(مقابلات قرآنية) هو عنوان الكتاب الذي يسّر الله لي البدء في تأليفه منذ سنتين ، وأرجو أن أتم ذلك خلال سنة -بتوفيق الله- ليكتمل عِقدٌ ذهبيٌّ من التدبّر والتأمل في بلاغة كتاب الله عز وجل وبيانه ، مكونٌ من جواهر ستة وثلاثين شهراً ستكون -بلا ريب- من أثرى وأغنى وأجمل شهور العمر الذي كتبه الله لي في هذه الحياة. والقرآن الكريم هو (كنزنا) الحقيقي الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق (أي يبْلَى) على كثرة الرد -كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه- وهو وصف دقيق لتجدد بيان القرآن وأثره في النفوس كلما زاد المسلم من قراءته وتدبّره وتأمله ، وإن هذا لجانب عظيم من جوانب إعجاز القرآن الكريم فما من كتابٍ على وجه الأرض يعيد الإنسان قراءته مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك إلا ويجد لمعانيه حداً يتوقف عنده ، ونهاية ينتهي إليها ، أما الكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يوقف قارئه عند حدٍّ معين من الفائدة ، والإحساس بالجمال والكمال ، والمتعة الروحية المتناهية ، والعلم المتجدّد الذي ينبهر به عباقرة البشر في كل زمانٍ ومكان. وجانب المقابلات في القرآن الكريم جانب بلاغي متألق ، يزداد مع التدبّر تألقاً في النفس ، وإشراقاً في القلب ، وقيمة في العقل ، وإثراء لصفاء الروح ، وتعميقاً للإيمان بالله عز وجل. إن التأمل في هذا الجانب ، والتدبر فيه يوقف الإنسان على أنواعٍ من المقابلات العجيبة التي تؤكد التناسق الدقيق بين كل آية وآية ، وكلمة وكلمة ، وحرفٍ وآخر ، وهذا الجانب خاص بالقرآن الكريم لا يتحقق في غيره -على وجه الإطلاق- فمن المقابلات ما يقابل بين معانٍ متضادة ، ترسّخ الفكرة ، وتبيّن المعنى المراد ، وتحقق المتعة البلاغية للمتدبر. ومنها ما يقابل بين معانٍ متوافقة ، يكون بعضها سبباً والآخر نتيجة له ، أو سؤالاً والآخر إجابة عنه ، أو بداية والآخر نهاية له. وهنا تفتح أمام المتدبّر أبواب فسيحة تفضي إلى آفاقٍ غير محدودة من الفائدة والمتعة والإحساس بالراحة والاطمئنان ، مضافة إلى جانب (العبادة) التي ينفرد بخاصيتها القرآن الكريم دون غيره من الكتب ، فهو الكتاب الوحيد على وجه الأرض الذي نتعبّد لله بتلاوته ، ونحصده منها الأجر العظيم الذي لا حدود له. انظر معي -قارئي العزيز- إلى هذا المثال للمقابلات القرآنية التي أعيش معها: قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (28) سورة الأحزاب. يقابل هذا مباشرة عرضٌ آخر نقيض له في المعنى والنتيجة والحالة التي يكون عليها الإنسان بعد الاختيار. قال تعالى {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الأحزاب. هنا عرضان مختلفان شكلاً ومضموناً ، الأول منهما يعرض على أمهات المؤمنين الحياة الدنيا وزينتها وبريقها الذي يخدع الناس ، وهذا العرض يتطلب مفارقتهن لأفضل خلق الله زوجهن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يملك من حطام الدنيا الفانية شيئاً ، فقد اختار جانب الزهد في الدنيا حينما خيّره الله في أن تتحول له الجبال ذهباً ، لأنه يملك ثروة الإيمان بالله التي لا تضاهيها ثروات الدنيا كلها. أما العرض الثاني فهو يعرض عليهن -رضي الله عنهن- الله ورسوله والدار الآخرة ، وهذا العرض يتطلب مفارقتهن لمظاهر الحياة الدنيا وبريقها الخادع ، وملازمتهن لأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام. إنها مقابلة واضحة في طرحها ، متناسقة في جملها وكلماتها ، مثيرة في طريقة طرحها ، لأنها تعرض صورتين مختلفتين لحياتين متناقضتين تؤديان إلى نتيجتين متعارضتين ، فإذا كانت نتيجة العرض الأول خروجهن من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليعشن من متع الحياة ما يتحقق لهن مع غيره من أهل الدنيا ، فإن نتيجة العرض الثاني الفوز بالأجر العظيم الذي ينتظرهن عند الله سبحانه وتعالى ، ولهذا أطلق الله سبحانه وتعالى لهنّ هذه النتيجة إطلاقاً يوحي بأن عظمة ذلك الأجر لا حدود لها فقال سبحانه (أجراً عظيماً) بهذا الإطلاق البديع. ماذا كانت النتيجة ؟ لقد قلن بلسانٍ واحدٍ رضي الله عنهن: (بل نريد الله ورسوله والدار الآخرة). فلله أولئك النساء والمؤمنات الطاهرات الواعيات. هكذا نرى عظمة أساليب القرآن الكريم ، وهو ما شعرت به ، وأحببت أن تشاركوني هذا الشعور الجميل ، وهذا الإمتاع الفريد. إشارة: خيول المجد نحوك سوف تمضي=جواداً سابقاً يتلو جوادا