** المشهد والبرواز .. وحكاية التناقض في المضامين ما بين المفهوم والسلوك , المشهد يثيرك بكل دلالاته والبرواز يؤلمك بما يحمله من أبعاد .. وكل منا في حراكه وحياته قد يكون المشهد وقد يكون البرواز بحسب ثوابته وأنماط سلوكه , وتظل المسافة بين المشهد والبرواز تمثل البعد السحيق ما بينك وبين الآخر .. قد يكون هذا الآخر في أقصى حدود العالم وقد يكون في نهاية الشارع الذي تسكنه وفي داخل المجتمع الذي تعيش فيه !! ** دعونا نقترب ( يا سادة) أكثر من الحكاية حتى لا نكون كمن يسرد أحجية لا يفقهها إلا صاحب السرد وذاته !! هذا الأسبوع مرت علي ثلاثة مواقف متتالية : ورغم توحد الدلالة إلا أنها تبرز مدى الفروق في المفهوم والاستيعاب والأنماط السلوكية !! المشهد الأول .. تكوّن من وحي أيميل جاءني من احد الأصدقاء يروي قصة مجموعة من (ربعنا ) المبتعثين في ألمانيا دخلوا مطعما في هامبورغ , المطعم كان هادئا جدا , وانتم تعرفون طبائعنا .. نحن الوحيدون في هذا العالم الذين نملك القدرة على تحويل اجمد الأماكن الرومانسية إلى سوق للصخب وقلب الطاولات !! وكعادتنا أيضا ( رصوا) الطيبين الطاولات وافحموا نادل المطعم بكثرة الطلبات ! وعندما غادروا المكان كان هناك الكثير من الطعام لم يزل في الأطباق !! لم يبرحوا الباب حتى سمعوا صوتا يناديهم وإذا بسيدات كبيرات في السن كن يجلسن في الطاولة المجاورة يتحدثن إلى مالك المطعم وأنهن يشعرن بالاستياء لإضاعة الكثير من الطعام .. يعني تحملنا ( قرف صجتكم ) لكننا لن نتحمل قرف إسرافكم !! وطبعا (ربعنا) اشتاطوا غضبا .. فنحن أهل الخيل والهيل والليل .. لقد دفعنا ثمن الغداء كاملا وأزود فلماذا تتدخلن فيما لا يعنيكن ؟ ونفخوا صدورهم و( كروشهم) الممتلئة للتو بالأكل ورفعوا أصواتهم يحسبون أنهم في احد شوارع الرياض أو جدة مما جعل إحدى السيدات المسنات تغضب وتتصل بالهاتف وتطلب احدهم , واحدهم هذا هو ضابط من مؤسسة التأمينات الاجتماعية الذي حضر على الفور وكأنه كان عند باب المطعم ينتظر البلاغ .. (الله على ربعنا في التجارة لا تراهم ولا تسمع صوتهم) ..!! وحرر ضابط التأمينات مخالفة بقيمة 50 ماركا وقال بلهجة حادة .. (اطلبوا كمية الطعام التي يمكنكم استهلاكها .. المال لك ولكن الموارد للجميع .. وهناك العديد من الآخرين في العالم الذين يواجهون نقص الموارد .. ليس لديك سبب لهدرهذه الموارد) ..!! وتساءلت بحسرة وأنا اقرأ الايميل كم منا يفهم الفرق ما بين حدود المال وحقوق الموارد ؟؟!! القضية لا تحتاج إلى إجابة , في مطاعمنا ومناسباتنا تلقون الإجابة البواح المؤلمة !! ** المشهد الثاني .. من وحي إحدى مناسبات الأفراح حضرتها هذا الأسبوع عند احدهم , هذا ( الأحدهم ) (قلطنا) على خمس قعدان ( حاشي) قعود ينطح قعود. أما المفطحات بلا عدد لم استطع أن احصرها أنا على الأقل من كثرتها .. صحن القعود جلسنا عليه خمسة أشخاص بالتمام والكمال !! واسأل لو كان هذا في ها مبورغ كم ماركا سيدفع ربعنا على كل قعود او حاشي ؟ وكم ماركا على المفطحات ؟ لكني اعرف شيئين لا ثالث لهما : الأول أن حكاية ( الحاشي) لن تحدث في هامبورغ إطلاقا لان هناك ( روح) المشهد بينما نحن مع الأسف لازلنا نعيش ( خارج) البرواز !! أما الأمر الثاني فان كل هذه القعدان وكل هذه المفطحات ستذهب في النهاية كما هي وبشحمها ولحمها الى براميل المخلفات !! ** المشهد الثالث .. التقطته من وحي جولة قمت بها فى داخل احد الأحياء الراقية بمكة المكرمة لقد شاهدت شيئا مذهلا .. على ناصية الشارع الأول امرأة مسنة جدا وبحالة محزنة وهي تنبش برميل مخلفات. المشهد لا يحتمل من ( الأسى ) أن تقف عنده كثيرا , في الشارع الآخر ذات المشهد وذات الصورة , في الشارع الثالث جلست مسنة تأكل إلى جوار برميل القمامة , ما بين الأوساخ والقاذورات والروائح والحشرات. لا ادري هل تأكل من شيء استخرجته من المخلفات أم ان أحدا أعطاها شيئا في ذات المكان ؟ أيا كان فالصورة قاتلة !! في الشارع الرابع عجوز مسن ومعه اثنان من الصبية الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم العاشرة في حالة من البؤس والفقر كسابقاتها ينبشون داخل برميل قمامة .. احد الصبية كان يجمع بعض الملبوسات الملقاة فى داخل البرميل . لم يقتل فرحه انه وجد ( بنطلون ) حتى ولو داخل القمامة ! ** هذه المشاهد الثلاثة لا أظنها تحتاج إلى الكثير من التفسيرات .. هي بذاتها المشهد والدلالة التي يقف عندها القلم ويصمت أمامها كل حديث ! بقى أن أقول .. فرق بين ان تكون ( داخل) المشهد او تكون (خارجه ) وهو الفرق ذاته فى التعاطي الحضاري ما بين السطحية والجوهر لهذا نختلف في فهم حقائق الأشياء ولهذا نتناقض في سلوكياتنا حين نتعامل معها !!