وقعت عيني صدفة على خبر أوردته وكالات الأنباء عن موزع بريد إنجليزي صدرت بحقه عقوبة نتيجة كسله وإهماله في عمله . أضحكني الخبر لأنه أعادني للوراء أربعة عقود حينما كنت أعمل مع صديقي ، وزميلي ، وأخي عبد القادر شريم في قسم البرقيات ، وتم تعريض بموزع برقيات ارتكب نفس (حماقة) الموزع الإنجليزي مع فارق في مستوى المعيشة بين الموزعين . ونبدأ بالحدث البريطاني الذي بثته الوكالات في منتصف العام 2009م ، ثم نربطه بالحدث المحلي الذي وقع قبل أكثر من أربعين عاماً ، وكان حديث الموظفين في قسم البرقيات في عام 1388ه ، ونصه . قررت محكمة بريطانية إيداع ساعي بريد السجن لإقدامه على إحراق آلاف الرسائل في حديقة منزله بعد أن فشل في توزيعها بسبب الكسل الذي انتابه جراء تناول كميات كبيرة من المخدرات . ونعود لحادث الموزع - الجداوي- الذي قيل لي إنه صال ، وجال في عمل توزيع البرقيات في داخل أحياء مدينة جدة القليلة ، واشتهر بين زملائه بكراهية شديدة لهذه المهنة خاصة في مواسم الأعياد حيث تكثر برقيات التهاني ، والتي كان يراها من وجهة نظره (فشخرة كذابة) إلى أن لجأ لحيلة يتخلص فيها من هذه الأعداد الكبيرة من البرقيات ، والتي كان رجل أعمال شهير وراء إرسالها فصعد سطح مبنى إدارة البرقيات وقام بحرقها ، وبعد مرور وقت على هذا العمل تم اكتشاف الحادثة ، وقام رئيس قسم التوزيع بتوجيه إنذار للموزع مُحذراً إياه بأن أي نقص في توزيع البرقيات سيكون هو المسؤول عنه ، وسيتعرض لعقوبات شديدة خاصة أن رجل الأعمال الشهير صاحب هذه البرقيات الكثيرة كان يدفع بعض مئات من الريالات لرؤساء الأقسام ، والموظفين من مال الزكاة في شهر رمضان فكان الواجب يفرض المزيد من الاهتمام ببرقيات رجل الأعمال ، وليس حرق برقياته من قبل هذا الموزع كما غيرها من البرقيات لمجرد أن إرسال برقيات التهاني في الأعياد بهذه الكثافة تعتبر - من وجهة نظره - فشخرة لا داعي لها لذلك يتسلى بحرقها فوق سطوح الإدارة ، وربما أنه يستمتع بهذه الحرق على الرغم من أن مدينة جدة قبل أربعين عاماً لم تكن تعاني من الازدحامات ، والاختناقات ، وكانت إدارة البرقيات في قلب المنطقة التجارية ، وقلب الإدارات الحكومية .. لكن المشكلة في موزع البرقيات المحلي الذي يرفض هذه الفشخرة في التهاني البرقية يتعلق هو بالفشخرة تعلقاً ليس له حدود ، أو قيود فعندما اتقرب من بعض زملائه كشف لهم عن صور تذكارية وهو يرتدي بدلة عسكرية ويضع على كتفيه (ثلاثة نجوم ، وتاج على كل كتف) أي أنه بهذه الصورة يكون زعيماً (الاسم السابق لرتبة عميد الآن) وهي من الرتب العسكرية الكبيرة التي يسيل لها لعاب أي شخص . ولم تكن هناك صعوبة في الحصول على (النجوم ، والتيجان) فقد كانت تباع علناً في بعض الدكاكين المتخصصة في شارع قابل ، كما لم تكن هناك مشكلة في تفصيل بدلة عسكرية ، وكان التصوير سهلاً ، وميسوراً في أشهر استديو في باب شريف ، وباب مكة (استديو الحرمين ، واستديو الشعب) وكان الموزع المحلي يبدو سعيداً للغاية وهو يعرض صوره العسكرية (المزيفة) بينما لا يملك غير دراجة ، وبيت شعبي مؤجر ، وراتب ليس فيه مجال للترفيه من قريب ، أو بعيد ، وربما هناك نقص في تأمين الضروريات .. وهو حينما يستعرض أمامك صوره العسكرية (وخاصة صورته ببدلة الزعيم) تشعر - لو اختلست إليه النظر - أن الدنيا لا تكاد تسعة من الفرحة رغم أنه يعرف أن هذه الصور مزيفة ، وأنك لله تصدّقه وهو داخلها .