يراسلني صديقي المبهج أبو جود برسائل شعرية فارهة ، وكأني به يستحث ذاكرتي الشعرية على الانهمار كشلال ضوء ، محرضا بذلك على غواية الشعر الجميلة ، ونافضا غبار الزمن عن رفوف القلب الذي تشظى بين الكتابة النثرية والحياة الاجتماعية الرتيبة ، وهو بذلك يعترف بهذه التهمة البيضاء ، ويلتصق بذلك الذنب الأبيض الذي لا يرجى غفرانه ! أشاكسه أحيانا برسائل مماثلة قد تكون وليدة اللحظة الشعرية الراهنة ، وقد تكون مما احتفظت بها الذاكرة المترمدة في أحايين كثيرة ، فلم يعد في القلب متسع لذلك الركض الجميل في مضمار الكلمة الفاخرة ، والقصيدة العصية بعد أن يبس العطر في وردة الروح ! ربما للكتابة النثرية المباشرة التي تستهلك المخزون الفني لدى الشاعر دور كبير في هذا التصحر الذي بدأ يغزو بيادر الشعر وحقول القصيد ، وهذه الحالة تعزز نظرية (الصحافة محرقة المبدع) !. الشاعر الراحل محمد الثبيتي رحمه الله عندما أستكتبه (عكاظ) قبل عقد من الزمن أو يزيد ، ليكتب مقالا نثريا يحمل اسم (تضاريس) لم يستمر طويلا ، وعندما سألته ذات مساء حالم قال بكل بساطة وصدق : أنا خلقت لكي أكتب الشعر ، وأشعر أن المقالة ستقتل الشاعر في داخلي لذلك اعتذرت بهدوء وقناعة . والروائي عبده خال عندما قلت له: أنت تكتب المقالة بطريقة مباشرة وعادية ، بخلاف العمل الفني الذي يتجلى في رواياتك ، أقر بذلك وقال: لن أجعل المقالة تستنزف مخزوني الفني أو الأدبي ، بل سأوفر هذا المخزون لصالح العمل الأدبي والثقافي الذي تحفظه ذاكرة الزمن الأدبية . الكثير من الأسماء الجميلة غابت في دهاليز الصحافة والعديد من التجارب الخلاقة ذابت في لجة العمل النمطي القاتل لكل تجليات الحياة الشفيفة وإشراقات النفس التي تحتاج إلى صفاء الذهن ، واعتدال المزاج العام . في المقابل هناك القليل من الأسماء التي هربت من جحيم الصحافة أو تقاعدت مبكرا من تعقيدات العمل الحكومي لتتفرغ لمنجزها الإبداعي أو نتاجها الثقافي ، فاستعادت توازنها ، ولكن ماحيلة المبدع الذي لا يقوى على تطبيق هذه المعادلة الصعبة بسبب ظروفه المادية القاهرة ؟! .. ويكفي.