لا أدري هل ما بثته الوكالات العالمية عن جَلْد فتاة سودانية على قارعة الطريق ، وفي محيط شجيرات وادعة مسبحة، هو المفهوم الديني الذي سيحقق التقوى لمن فعل ذلك؟! قبل الحكم السريع على هذه الحادثة لنتأمل ما قال السيد د. عبدالرحمن الخضر (والي ولاية الخرطوم) ، الذي أثبت بالتقارير الرسمية أن الفتاة (المحكوم عليها) قبض عليها آخر مرة قبل الجَلْد بصحبة خمسة أشخاص برقم بلاغ (465) في 24/2/2010م ، ثم فتح ملفها فوجد فيه أنه قبض عليها في حوادث جنائية عدة في 17/5/2005م ، وفي 3/1/2008م ، وفي 30/1/2008م ، ثم في 24/2/2010م ، وأن القضية ليست كما روّجت بعض وسائل الإعلام بأنها (لبس بنطال مخل بالآداب) !! بل والأغرب أن نشر هذه الحادثة تم بعد تنفيذها بعشرة أشهر! ومع ذلك فقد أعجبني السيد (والي ولاية الخرطوم) أن التنفيذ يحتاج إلى مراجعة في جوانب معينة. نعم نحن كمسلمين (فينا ما يكفينا) كما يقول العامة ، ولسنا بحاجة لوضع مبررات للأعداء للصيد في الماء العكر ، ولكننا كذلك كمسلمين لا نخفي تقديم حق الله، وحكم القضاء الشرعي النزيه ، والسعي لحفظ أعراض الناس ، وصيانة المجتمع من الفساد. كما أنه لا يعني وجود حادثة أو قضية تعزيرية شابها ما شابها في الإعلام أن نتذرع بوجود جرائم سياسية وأخلاقية أكبر لم تقم على أصحابها الحدود، ولماذا التركيز على (الغلابة) ؟! إن هذه الدعوى رغم واقعيتها وللأسف لا تلغي ولا تنفي الخطأ وحكمه الشرعي بطريقته الصحيحة ، بل تفتح الملف على المفسدين والمفلسين في الأخلاق ، ليراعوا ضمائرهم ، ويراقبوا تصرفاتهم ، وأنهم لن يفلتوا عاجلاً أو آجلاً من العدالة القضائية ، أو العدالة الربانية ! وبالعودة لموضوع الحادثة أو عملية (التطهير) كما يسمّيها الفقيه الأصولي عبدالوهاب خلاف ، نجد أن التعزير أمام الناس حكم شرعي ثابت ، وأن تطبيقه يعود للحاكم والقضاء الشرعي رغم النتيجة النفسية المسبقة على المحكوم عليه ومَن يشاهد تعزيره! ورحم الله زمانًا كان يروي الراوي فيه: (أن نعيمان أو ابن نعيمان -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أُتي به وهو سكران ، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر مَن في البيت أن يضربوه بالجريد والنعال ، فكنت ممّن ضربه!) . وما رواه أبوهريرة عن رجل شرب الخمر ، فقال عليه الصلاة والسلام: (اضربوه. قال أبو هريرة: فمنّا الضارب بيده ، والضارب بنعله ، والضارب بثوبه ، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! ، قال: لا تقولوا هكذا ، لا تعينوا عليه الشيطان) . والحديثان في البخاري. لكن تبقى مسألة التعزير المشروعة بالجلد أو الضرب تعود للحاكم والهيئة القضائية ، عدا بعض الأحكام المحدودة الموضِّحة لكيفية العقوبة. وقد رأينا كيف أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عدل عن جلد أحد الشباب الجناة الذي أدى تعزيره بهذه الكيفية للنفور والهروب والوصول للردة! إننا في الحقيقة بين دائرتين واسعتين ، أحدهما: ردع المتجاوزين أيًّا كانوا شبابًا أو نساءً ، وثانيهما: الآثار السلبية المتوقعة من المعاقبين (شباب - بنات) خاصة في ظل هجوم العولمة الطاغي بالفساد وانحلال القيم. أحيانًا عني شخصيًّا أميل إلى التشديد أكثر لخطورة التجاوزات التي يفعلها الناشئة ، فضلاً عن جيل الشباب ، وأحيانًا عدة أتحفّظ على أسلوب التعزير الذي أتوقع من خلال الوقائع والحوادث والدراسات أنه يفضي إلى آثار سلبية ، خاصة أن بعض هذه التنفيذات تُمارس بطرق وفي أماكن تعود بالضرر أكثر من النفع. وبطبيعة الحال لا يفهم أن المطلوب إمّا العقوبة ، وإمّا السكوت والرضا بالواقع. بل المقصود كيفية أداء العقوبة لمن يستحقها بالطريقة المشروعة وفق مقاصد الدّين. نعم لقد كتبت دراسات سابقة عن نظام العقوبات في الإسلام كان من أبرزها رؤى اجتهادية ، ونظرات شرعية للشيخ العلّامة محمد أبوزهرة ، وأخيرًا الشيخ يوسف القرضاوي ، إلاّ أن الموضوع يتطلب مساحة أوسع في ساحات البحث الفقهي في المؤتمرات والندوات المعنية بجهات القضاء والفتوى والاجتماع والسلوك. ولعلّني في مقالة أخرى أشير في نقاط سريعة كعناوين موجزة تناسب طبيعة الكتابة هنا إلى خلاصة بحثي: (ضرب الإنسان وجلده .. حدوده وضوابطه). ولعل من المناسب وقبل الختام أن أعرض لرأي العلّامة محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير بشأن ضرب المرأة الناشز ، وأنه ليس إذنًا عامًّا لكل الأزواج ، بل هو لحالات خاصة من النساء ، وليس مجرد مرتبة ثالثة لكل النساء! مع الإشارة إلى العقوبة التعزيرية للزوج الذي يضرب امرأته بغير حق ، أو لمجرد أنه صاحب الولاية في البيت! إن نظرية (اضربوا النساء .. هو أقرب للتقوى) غير عادلة ، ولا صحيحة طالما فُهم منها أن النساء هن سبب الفتنة لوحدهن دون غيرهن ، وأن ضربهن أمر عام مشروع لكل زوج يحمل راية القوامة ، أو قاضٍ يأمر بالضرب أو الجلد أين وكيف ما اتفق!!