خارطة المجالس المعنية بالثقافة والأدب تتسع زماناً لتشمل تاريخنا العربي من عصور ما قبل الإسلام إلى اليوم، وتتسع مكاناً لتشمل معظم البلدان العربية داخل جزيرة العرب وخارجها. وما زلت أذكر تلك المتعة التي شعرت بها وأنا اقرأ كتاب جواهر الأدب للسيد أحمد الهاشمي في بداية دراستي الثانوية وقد حصلت عليه مع بعض الكتب التراثية المهمة جائزة للنشاط والتفوق في معهد الباحة العلمي، كنت أشعر أنني - حينما أفتح أول صفحات الكتاب - أفتح باباً إلى عالم جميل، ورياض غناء، أتجول فيها كأنما خرجت - خروجاً - حقيقياً - من كل ما حولي ومن حولي من الأهل، بدخولي من بوابة ذلك الكتاب، وهو مليء بأخبار الأدب ومجالسه ومناظراته ومحاوراته. وكانت المتعة أعظم حينما سمعت أستاذ الأدب يروي لنا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلسه أيام خلافته لبعض ولد (هرم بن سنان) الممدوح الأول للشاعر العربي زهير بن أبي سلمى: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده ابن هرم بعض قول زهير، وكان عمر رضي الله عنه معجباً بزهير، فقال بعد سماع ما أنشده ولد هرم: إن كان زهير ليحسن فيكم القول. قال ابن هرم: ونحن - والله - إن كنَّا لنحسن له العطاء. فقال عمر: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم، ثم قال: لابن زهير وكان حاضراً: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال ابن زهير: أبلاها الدهر يا أمير المؤمنين، قال عمر: ولكن الحلل (الشعرية) التي كساها أبوك هرماً لم يبلها الدهر. كانت المتعة - لا توصف - حينما سمعت هذه القصة في تلك المرحلة المبكرة من الدراسة، ثم توالى اهتمامي بمتابعة مجالس الأدب والنقد والثقافة في تراثنا العربي الإسلامي، وتراث الأمم الأخرى، فوجدت لها دوراً كبيراً في الترقي بثقافات وآداب الأمم. وعلمت بعد ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ذا عناية خاصة بالشعر، وعناية أخصّ بشعر زهير بن أبي سلمى، وكان له مع حبر الأمة عبدالله بن عباس مجالس أدبية شعرية تؤكد مستوى الذوق الأدبي الراقي عند أولئك الأفذاذ. كان عمر بن الخطاب ناقداً متمرساً حينما قال لابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء، فسأله ابن عباس قائلاً: ومن شاعر الشعراء يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير بن أبي سلمى، قال: وبمَ جعلته شاعر الشعراء؟ فأجابه عمر إجابة الناقد - لله دره - قائلاً: لأنه كان لا يعاظل في كلامه، ولا يأتي بوحشي اللفظ ولا يمدح أحداً إلا بما فيه، قال ابن عباس فما زلت أنشده شعر زهير - وهم في سفر - حتى اقترب الفجر ثم قال: حسبك، وطلب أن يقرأ ابن عباس شيئاً من القرآن الكريم. وقد أنشد عمر أبياتاً لزهير يقول فيها : دعْ ذا وَعدٍّ القول في هرمٍ=خير البُداة وسيد الحَضْرٍ لو كنت من شيء سوى بشر=كنت المنور ليلة البدر ولأنت أوصل من سمعت به=لشوابك الأرحام والصهر فقال عمر: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الذي يستحق هذه الصفات فيكون المادح صادقاً الصدق كله. مجالس أدبية منتشرة أشار إليها الرُّواة، وعلماء اللغة والأدب في كتبهم مثل الكامل في اللغة والأدب للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي لأبي علي القالي، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والأغاني للأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، ومجالس ثعلب، والشعر والشعراء لابن قتيبة وغيرها من الكتب التي تعدُّ بالمئات. وكنت اقرأ عن تاريخ الحجاز فوجدت أخباراً جميلة عن مجلس أدبي كان يعقده الوزير الأديب (محمد سرور صبَّان) في عهد الملك سعود ويحضره من الأدباء والشعراء أحمد الغزاوي، وأحمد قنديل، وعبدالله بلخير وغيرهم من مشاهير الشخصيات في ذلك الوقت - رحمهم الله -. والصوالين الأدبية في الشام والعراق ومصر والمغرب العربي واليمن أكثر من أن نُلمَّ بها في هذه المقالة ونظائرها. جانب مهم يستحق أن نقرأ عنه لنستفيد مما فيه من أدب وعلم وثقافة. إشارة : رحلوا؟ نعم وكأنهم ما قلَّبوا=نظراً ولا أصغت لهم آذانُ