أسند الشيخ ظهره على شجرة توت في حوش منزلهم بالمدينة .. وراح في تفكير عميق لم يقطعه إلا صوت أم عياله التي بادرته قائلة : وشبك ياجمعان . منت معنا . اعتدل الشيخ في جلسته وزفر وتنهد ثم قال : آه .. يا شريفه .. ياليت لي جغمة ماء من قربة أشم فيها ريحة قطران . - ردت شريفه : أقول يا جمعان فكة .. ياما شقينا وتعبنا .. تحمد الله ياخه على تي الراحة .. والله ياجمعان إني من كثر مانا رايحة وجايه من عراق الركيبة إن ما فطر فيها ريحة الخلا من كثر ما حفيت رجولي رايحة جايه .. اسوق بالحمارة .. وازيد اغدي احرف من صُبْحَا إلين استوت الشمس . = آه .. ياشريفه .. تبهذلنا لكن آهو أحسن من آه يا ركبتي آه يا ظهري .. الواحد منا كنه الحصان وارجوله ما توقع في الأرض .. آهي ذيك الحياة .. ماهيب تي الحياة .. المكيفات ذبحتنا وطول النهار قاعدين لا شغل ولا مشغلة .. كنا مسجونين .. اقول قطيعة ياخته - قالت شريفه : الله لا يسقي يا جمعان يوم كان الفقع في رجولك يدخل فيه حجر المرجمة . = جمعان : ما عليك شرهة يا شريفه كل شنة ألو . ألو .. وفي العصر عند الزهارين وبعد المغرب تتقهوين عند العساريه . آهي هذي حياتك. - شريفه : خذنا في الهجرة نعمة ها وش ودك به . = جمعان : اقل يا .... والعيشة ! - شريفه : حرام لا عاد تقل الكلمة تيه = جمعان اقول : الله يرد لك ما غدا من عقلك. اشياء كثيرة تغيرت في حياة زوجته شريفه لكن بعض طبايعها ولهجتها لم يتغير منها شيء وهذا سر سعادته . عاد جمعان إلى ذكرياته وقال في نفسه ياليتني أرجع أعيش في الديرة .. لكن ظروفي ما تساعدني .. الكهلة نشبه ماعادت تبغي الديرة .. وانا ما عدت اقدر اتحمل حفوف النجدية ذيك .. والقرِّة وعصاة بقعا . ارتفع صوت الحق خرج جمعان إلى المسجد يتكئ على عصا غليظة يحتفظ بها من أمد بعيد كبر الإمام وقرأ سورة الشرح .. سقطت دمعة حارة من عين جمعان وتذكر رفيق دربه سعيد الذي كان في مسجد القرية كثيراً ما يقرأ بهذه السورة .. وبدأ يستعيد ذكرياته مع أقرانه أحمد وعبدالله وغيرهم لقد رحلوا جميعاً إلى الدار الآخرة . واصل جمعان ذكرياته ولم يقطعه إلا صوت عامل المسجد بقوله هيا يا عمي . = جمعان : .. هاه .. الله المستعان خرج الشيخ من المسجد .. وعاد الى شجرته يتكئ عليها. جلس ابنه البار عند اقدامه وقال له : ودك يابه نروح الديرة كم يوم نشم الهوا جمعان يعتدل في جلسته ويتقبض ارجوله = هاه ياولدي وشقلت ! كانت مفاجأه غير متوقعه طالما تمناها من عدة سنوات. بدأ جمعان يعد الايام والليالي متى تجي الصيفية .. جاء اليوم الموعود .. ووصل الشيخ الى قريته .. وما ان اطل عليها وابصرها حتى شعر بأن قلبه يكاد يطير من صدره لكن ! ملامح القرية تغير فيها الكثير ! البلاد امتلت بالطلح الذي اصبح يضاهي البيوت في ارتفاعه المساريب والطرقات مقفرة موحشة لوزالصفح لم يعد منه الا القليل .. قرصان التين مشتَّفَه من اطرافها .. أكلتها بقايا حيوانات القرية .. يقبع جمعان بعصاته في الحواجز التي تمنعه من السير في المسراب .. شوك .. زقُّوم .. سِعْور .. حجارة متناثرة .. عقش يسد الطريق .. يقعد طرف الحجيرة يتأمل ويفكر يرى راعي غنم تنفرج اساريرة يسأله عن الديرة والسيرة .. يرد الراعي بلهجه مشوهه اش فيه صديق ! ياما سمع الشيخ هذه الكلمات وهو في طريقه للمسجد عاد جمعان ادراجه وقد علت وجهه سحابة سوداء مظلمة وقال : = آه ياجمعان ياونتي ونتاه .. تغير كل شئ حتى انتي يالديرة ! حسبنا الله ونعم الوكيل .