محمد أركون عالم اجتماع قضى عمره في نقد العقل الإسلامي، وأنجز في ذلك مشروعا نقديا في عدد من الكتب والمقالات والحوارات الصحافية والتلفزيونية ينوء بها العصبة أولو القوة. ينطلق أركون في مشروعه من الحداثة باعتبارها منهجا بديلا لنهوض الأمة. منهج حياة يشكّل قطيعة مع الماضي، منهج فرضته تحولات العصر وشروطه. هذا المنهج يتأسس على العقلانية والنسبية والذاتية، وتحرسه بندقية الدولة العلمانية. الحداثة من حيث هي منهج حياة فرضت رؤية جديدة للعالم وللنص، ولذلك لا بد من تغيير منهجية النظر، وتحديث آليات الفهم، وإعادة قراءة الفكر الإسلامي بمنهجية الحداثة، التي تجعل العقل مصدرا للمعرفة، وتنزع القداسة عن العالم. ينتقد أركون القراءة التراثية التي أنجزها فقهاء الأمة، ويرى أن الفقه السني فقه سلطة جاء لتثبيت الاستبداد، ويرفض القراءة الاستشراقية؛ لأنها قراءة انتقائية، والبديل هو ما سماه الإسلاميات التطبيقية التي اقتبسها من الأنثروبولوجيا التطبيقية لروجيه باستيد لينتقل بالوعي من مرحلة القرون الوسطى إلى عصر الحداثة. والإسلاميات التطبيقية ليست سوى منهج أنثروبولوجي يدرس الظاهرة الدينية على أنها ظاهرة أنثروبولوجية موجودة في جميع المجتمعات، وبهذا ينزع القداسة عن الظاهرة ويحيلها إلى موقف اجتماعي عام يتكرر في كل زمان ومكان. وقد سار منهج أركون عبر ثلاثة محاور هي: إعادة قراءة التراث وتدمير منهجية القراءة، ونقد العقل الإسلامي سجين الرؤية اللاهوتية، وأسير الكتاب المقدس وكشف عيوبه وثغراته وأخطائه وضخ دماء جديدة في شرايينه، وتحديث المجتمع من خلال تبنيّ العلمانية التي تنزع القداسة عن العالم، وتحرر وعي الإنسان من كل سلطة معرفية أو دينية. لقد ذهب إلى أن القرآن نص أسطوري، ودعا إلى تحديد الخلط والخطأ والحذف الذي وقع فيه، وأكد أنه ينوي استكمال مشروع محمد أحمد خلف الله صاحب الفن القصصي في القرآن، الذي لم يجد من يستكمل البحث فيه!. الإسلاميات التطبيقية منهج ينطلق من رؤية عدمية، لا ترى قيمة لمنطق اللغة، ولا لتاريخية القراءة. رؤية تنطلق من استعلاء معرفي، فالحق هو ما ترى، والصواب هو ما تعتقد، ومع أنها رؤية تتدثر بالمنهج العلمي؛ فإنها أبعد ما تكون عن منطق العلم، لأن المعرفة توليد وليست قطيعة مع اللغة والتراث وتاريخ القراءة يقول أركون: “لكي نحلل وندرس وضع الإسلام الراهن في مواجهة الحداثة بشكل صحيح، فإنه من الضروري أن نوسع من مجال التحري والبحث لكي يشمل، ليس فقط الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وإنّما القرآن نفسه أيضًا إن المهمة تبدو مرعبة لأسباب معروفة جيدًا، سوف نرى، مع ذلك، لماذا هي شيء لا بد منه، إذا ما أردنا أن نعالج بشكل دقيق المكان الذي أتيح للتاريخية أن تحتله في الإسلام”. هذه هي الفكرة المركزية لمحمد أركون التي أفنى فيها عمره، ولقى ربه عليها. ولا غرابة أن يقول أركون ما قال فلكل وجه هو موليها، الغريب هذه المناحة العربية عليه، وكأنه أحد أهل بيعة الرضوان، مع كل ما قال في كتبه بحق الله، وبحق كتابه، وبحق هذه الأمة، ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.