أنا هنا لا أعرِّف بهذه المدينة «النموذجية» لأنها أصبحت عَلَماً في مجال البناء المدني المتقدم، والصناعي المتألق، ولكنني أنقل إلى الأحبة القراء ذلك الإيقاع الجميل الذي أطربني من معزوفة الإبداع في مدينة الجبيل الصناعية، وقد بدأ ذلك الإيقاع من قبيل عصر يوم السبت الرابع والعشرين من شهر جمادى الأولى حينما هبَّت تلك العواصف القوية، ومعها زخَّات من المطر الغزير، كنت أنظر إليها أنا واقف أمام بوَّابة المنزل التابع لضيافة الهيئة الملكية، أستمتع بما أرى من غزارة المطر مع انسياب الماء عبر الشوارع انسياباً بديعاً أعجبني وأدهشني. لقد كانت لحظات مميَّزة عشتها وقت نزول الأمطار، وأنا أرى هذا الغيث الغّدّق يهطل بهذه الغزارة، وهذا الجوَّ البديع الذي يجنح إلى الدفء قليلاً، ثم اكتملت معزوفة الجمال بخروجي بعد المطر متجوِّلاً في شوارع المدينة، وقد غسل الماء أشجارها الكثيفة الخضراء التي تتميَّز بها شوارع الجبيل الصناعية وميادينها العامة، وكان الجانب الأروع في هذه المعزوفة الإبداعية أنني لم أجد أثراً يذكر لذلك المطر الغزير في أي شارع من الشوارع التي مررتها، إلا ما أرى من بهاء الأشجار والأزهار من أثر البلل الذي صاغ أوراقها صياغة عجيبة ساحرة.وحينما زرت مبنى الإدارة العامة للهيئة الملكية بالجبيل، رأيت المعزوفة كاملة، واستمتعت بالإيقاع كاملاً. استقبلني إخوة كرام يتقدمهم الأخ فيصل بن حمدان الظفيري مدير إدارة العلاقات العامة، ومعي عدد من الإخوة الفضلاء من المسؤولين عن ملتقى تواصل الذي يتولّى جانب النشاط العلمي والثقافي والترويحي في مدينة الجبيل الصناعية. وكانت الجولة المنظمة أحسن تنظيم، أطلعني فيها الإخوة الكرام بالشرح المختصر المفيد مع العرض المصوَّر، ونماذج العرض المصغَّرة على تاريخ مدينة الجبيل الصناعية منذ نشأتها فوق كثبان الرَّمال إلى أن أصبحت معلماً صناعياً كبيراً تزوره الوفود من سياسيين ورجال أعمال مستثمرين من أنحاء العالم ومن خلال ذلك العرض وتلك الجولة برزت البنية (التحتية) لمدينة الجبيل نموذجاً رائعا؟ً للتخطيط السليم والرؤية المستقبلية المدروسة المتمثلة في خطط توضح لربع قرن قابلة للتجديد. صورة مشرقة لتخطيط المدن المتطورة، وأنا هنا أتكلم عن المدينة السكنية التي بُنيت على أسس سليمة رائعة من التخطيط المتقن أما المصانع فلها عالما البديع الذي يشهد بروعته العالم كلُّه. توزيع رائع للمساكن، والمتاجر، والحدائق، والمدارس، والمراكز التجارية، والتعليم الجامعي، وبنية تحتية سليمة أدهشتني صورتها المصغَّرة الموجودة في معرض الهيئة الملكية الدائم في مبناها الإداري، فقد رأيت مدينة متكاملة للجبيل الصناعية «تحت الأرض» فيها جميع الخدمات من تصريف مياه، وتمديد كهرباء وغيرها من الخدمات المهمة التي لا يراها الناس، ولا يعلم عنها الكثير من سكان هذه المدينة المتطوَّرة، وقد أتاح هذا التخطيط السليم لسكان هذه المدينة من الهدوء والراحة، والاستمتاع بالخدمات المتميَّزة ما يستحقون أن نغبطهم عليه، فالأمطار الغزيرة لا تجد عناءً في معرفة مسالكها ومساربها حينما يجود بها الله سبحانه وتعالى على هذه المدينة، مهما كانت غزارتها وكثافتها، وقد رأيت ذلك رأي العين كما ذكرت سابقاً، ولا مكان للإزعاج بالحفريات المتعاقبة المتكررة التي نراها في مدن المملكة الأخرى الكبرى والصغرى، لأن الخطط المدروسة تكفلت بتحقيق الراحة للناس من ذلك العناء. هنالك مشروعات عملاقة قادمة متمثلة في مدينة الجبيل الصناعية الثانية، ومنطقة رأس الزور الصناعية التي أسندت إدارتها والإشراف عليها إلى الهيئة الملكية. سؤال كان يلاحقني وأنا أرى مدينة الجبيل الصناعية «الأنموذج» ألا يمكن أن تفيد مدن المملكة كلُّها من هذه التجربة الرائدة الناجحة؟ وسؤال للهيئة الملكية يخصُّ مدينة الجبيل الأم: ألا يمكن أن تقوم إدارة مدينة الجبيل الصناعية بواجبها نحو تلك المدينة التي تبعد عنها «مَرْمى الحصاة» من باب القيام بحقِّ الجوار، وهو حقٌّ محفوظ في الإسلام، لأنها تعاني من التخطيط العشوائي مثلما تعاني المدن الأخرى في بلادنا، ولا شك أن معاناتها أقسى لأنها ترى مدينة متطورةً أمام عينها تنعم بتطوُّر تفتقده هي، ولا تستطيع أن تصنع مثله؟! إشارة: إنَّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أنْ يتقنه.