لم يكن يدور في خلدي، وقد سبق لي زيارة العديد من دول العالم الصناعية وغيرها، أن أجد جمهورية الصين وقد وصلت إلى هذا المستوى المتميز من التقدم في كافة المجالات، فمن الملاحظ أن بضائع الصين بكافة أنواعها ، بدءً من المستلزمات المنزلية والأدوات المكتبية ومروراً بصناعة الالكترونيات وحتى صناعة المعدات الثقيلة، قد انتشرت في معظم أسواق العالم، وبجودة وأسعار لا تنافس ، لكن لم أتصور أن هذا الانتشار الواسع مبني على قواعد صلبة من الدعائم الحضارية المتينة ، والتمكن الواضح من العلم والمعرفة، وامتلاك التقنية وتطويرها. وهذا ليس بمستغرب على أمة عريقة، قادت حضارة البشرية قبل آلاف السنين. استشرف كل ذلك من خلال رحلة عمل مع بعض الزملاء إلى الصين خلال النصف الأول من ابريل 2010م، وكانت محطتنا الأولى في مدينة شنجهاي، أحد أكبر مدن العالم، وذات الثمانية عشر مليون نسمة. حيث تعد واجهة الصين التجارية، هذه المدينة العريقة تستقبلك بمطارها الضخم والأنيق، الرائع في تجهيزاته ومبانيه. ومن هذا المطار إلى وسط المدينة ينقلك أسرع قطار مغناطيسي في العالم خلال مدة لا تتجاوز سبع دقائق ، وبسرعة تفوق (400) كيلومتر في الساعة، وهي أعلى سرعة لوسيلة نقل تسير على الأرض حتى الآن، فيحق للصين العريقة كدولة وشعب أن تفتخر بهذا الانجاز وهذا التميز، وتتباهي فيه أمام العالم لأنه يعتمد على تقنية صينية صرفة، وبهذا التفرد العلمي تبرهن الصين للعالم أنها أصبحت تملك زمام الأمر في تطوير صناعة القطارات وسرعتها. ولأن الهدف من جولتنا هو تعزيز علاقة العمل، والتبادل المعرفي بين قطاع الكهرباء في المملكة، والمصنعين والمقاولين من الصين ، فقد كانت لنا فرص مناسبة لزيارة عدد من المصانع المتخصصة في صناعة عناصر منظومات الكهرباء، مثل المولدات الضخمة للكهرباء ، وغلايات البخار، ومحولات الطاقة، وشركات تنفيذ مشاريع الكهرباء. أدركت حينها أن التقنية الصينية لم تبلغ مرحلة الريادة في تطوير تلك الصناعات من فراغ، فهي تبتكر وتطور، وتصمم ، وتصنع من تلك المعدات الأضخم والأميز على مستوى العالم، وقد ثبت ذلك بالأدلة العلمية القاطعة من خلال تشغيل تلك المعدات خلال العقود الماضية وجودتها، ومتانتها، وموثوقيتها العالية، وكفاءتها من خلال سجلات تشغيل تميزت بها على كافة الأصعدة. ومن صناعة المعدات الثقيلة، وبناء التجهيزات الضخمة لإنتاج الكهرباء، كانت لنا فرصة الاطلاع على إمكانات الصين في مجال الصناعة الالكترونية، وذلك خلال زيارة أحد المصانع المتخصصة بتصنيع الخلايا الشمسية (الكهروضوئية) لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية. فتتبين لنا أيضا أن الصين قد وصلت إلى مستوى الريادة والتفوق العلمي في هذا الميدان من خلال إنتاج ألواح كهروضوئية تعد الأكبر من نوعها على مستوى العالم، سواءً في كبر حجمها، أو في قدرتها على إنتاج الكهرباء. ولعل من أهم الأمور التي تفاجأنا بها خلال جولتنا هي نظافة المصانع أولاً، وجودة معداتها، إضافةً إلى أن معظم خطوط الإنتاج تخلو من العنصر البشري لاعتمادها اعتماداً كاملاً على التشغيل الآلي. وهذا على خلاف ما كنا نتوقعه في بلاد المليار ومائتين مليون نسمة، حيث كنا نتوقع تزاحم العاملين في خطوط الإنتاج. وإلى جانب التميز الصناعي والتقني في الصين، لاحظنا احترام المواعيد لديهم، والتنظيم الرائع في التنقلات وحسن الاستقبال، إلى جانب الإبداع والتميز في عرض المعلومات، والمناقشات، يتوج ذلك كله الاهتمام الواضح بالضيافة، التي لمسنا من خلاله الكرم الصيني العريق. وفي واقع الأمر أن الصين ليست وحدها في الميدان العلمي والصناعي، فهي تتحرك ضمن منظومة دول الشرق، التي يبلغ التنافس أشده فيما بينها، سواءً كان ذلك في السباق على التطور التقني، أو الجودة التصنيعية، أو خدمات ما بعد البيع، أو الأسعار، وإجمالاً يمكن القول وبدون تردد، أن دول الشرق خلال العقود الثلاثة الماضية قفزت خطوات متقدمة وسريعة جداً في كافة المجالات، لكنها تميزت تميزاً واضحاً في مجال التقدم التقني، والصناعي. لذلك أتمنى من الله عزوجل أن نرى في بلادنا الغالية قفزات نحو التطور العلمي، والتقدم التقني، الذي يمكننا من تحقيق انجازات نفتخر بها بين الأمم والشعوب، خاصة مع التوجه المبارك لخادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، للرقي بالعلم والبحث العلمي، من خلال جهوده المثمرة في هذا الميدان، المتمثلة في دعم برامج البعثات للطلاب، والتوسع في إنشاء الجامعات، التي من أهمها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وطالما أننا نمتلك الدعم والتشجيع الحكومي، والموارد اللازمة، والإمكانات المطلوبة، فإننا نتطلع أن تصبح المملكة رائدة في مجالات عديدة بإذن الله تعالى. ___________________________________________________________________ دكتور مهندس صالح بن حسين العواجي وكيل وزارة المياه والكهرباء لشئون الكهرباء رئيس مجلس إدارة الشركة السعودية للكهرباء بالإنابة