الإرهاب، صناعة العصر، بدأها الغرب ولم يسلم منها جنوب شرق آسيا، ثم جاء به الصهاينة إلى فلسطين، مما اضطر حكومة الانتداب البريطانية آنذاك إلى إدراج أسماء إرهابيين مطلوبين للعدالة ونشر صورهم ومعلومات عنهم، أصبحوا هم فيما بعد مسؤولين بارزين في الدولة الصهيونية، حين وطد الانتداب لهم الأمور. ولم تكن المقاومة الفلسطينية ولا الجيوش العربية أو الجهود السياسية -حينذاك- قادرة على التعامل مع كيان تغلغل الإرهاب في كل جزء منه، حتى أن كثيرا من رؤساء هذا الكيان كانوا إرهابيين مطلوبين ذات يوم. بقي العرب على ما هم عليه، وازداد الكيان الإرهابي إتقانا لإرهابه وشحذا للقوة في صفه، وفي المقدمة أمريكا. فاختار من شاء تصفيته في أي مكان أو زمان بغض النظر عن العواقب السياسية، طالما أن المصلحة الصهيونية متحققة. واختار من الأهداف الاستراتيجية ما شاء؛ فدمر المفاعل العراقي، وما يحتمل أن يكون مفاعلا سوريا، ولا يزال يجهر بالنية في مهاجمة المواقع الإيرانية، وهذه الأهداف هاجمها أو سوف يهاجمها مستخدما مجالا جويا عربيا أو إسلاميا، ولا تخلو هذه الأعمال من تنسيق وربما مساندة غربية مع أكثر من دولة. إسرائيل تدرك جيدا سر قوتها وسر ضعف أعدائها من العرب، فهي دولة علم وتقنية في المقام الأول، ودولة استخبارات وإرهاب في المقام نفسه، ودولة علاقات عامة تسعى إلى استباق كل عمل مرذول بحملة تجعل المتعاطفين معها يتزايدون، حتى إذا ما قامت بما تقوم به لا تكاد تجد إلا القليل ممن يعترضون أو ينتقدون. وفي الوقت نفسه هناك الترهيب والترغيب، وكلاهما يعمل لصالح كيان تأسس من يومه الأول على استلاب حقوق الآخرين بقوة الباطل ومعونة الأقوياء. هذه الدولة رسخت مبدأ ثنائية المواطنة، حين جعلت اليهودي القادم من أقاصي الأرض مواطنا من الدرجة الأولى وسعت في الحصول له على الأرصدة العالية لبناء مدن عصرية ومستوطنات حضرية راقية، ثم جعلت في الوقت نفسه الفلسطيني صاحب الأرض من آلاف السنين مواطنا من الدرجة الثانية أو حتى الأخيرة، كما جعلت من حق اليهودي الاحتفاظ إلى جانب جنسيته الإسرائيلية بجنسية البلد الذي جاء منه، حتى تحقق بذلك مصلحة قومية في مجالات سياسية واقتصادية وأمنية وإعلامية، وهي حالة تناسب العقلية التلمودية التي تبني على استخدام كل شيء أيا كان في سبيل مصلحة اليهود. في عمّان عام 1997م أرسلت إسرائيل اثنين من عملاء الموساد لاغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي كان حينذاك يتلقى علاجا في أحد مستشفيات العاصمة الأردنية. وكان العميلان يحملان جوازين كنديين، لكن الملك حسين يرحمه الله كان من الشجاعة بحيث أعطى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أجلا محددا، لإرسال عقار يبطل مفعول السم الذي حقنوا به خالد مشعل، وكان للملك ما أراد. لكن الملف طوي حينئذ ولم يتخذ أي إجراء آخر، ولم تتخذ الحكومة الكندية ما يحمي سمعتها من إساءة من هذا النوع. وفي دبي، في شهر فبراير عام 2010م كشفت شرطة دبي عن أسماء وجوازات 11 عميلا ضمن مجموعة من 18 شخصا اشتركوا في التخطيط والتنفيذ لاغتيال المبحوح القيادي في حماس، بعد استدراجه إلى هناك بحجة صفقة وهمية لأسلحة، وكان هؤلاء الأحد عشر ينتمون -حسب جوازات سفرهم- إلى أربع دول أوروبية، هي؛ بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وأيرلندا، وخرج قائد شرطة دبي بكل شجاعة يعلن للعالم أن هؤلاء المجرمين سعوا إلى القتل بسبق إصرار وترصد. لكن الفضيحة تطول الدول التي تنتمي إليها جوازات السفر، وقد تكشف التحقيقات أبعد من ذلك، وتكشف الأيام عن ردود الفعل -إن كان هناك ردود فعل-، وليست لدبي أكثر من شجاعة الكشف والتزوير. ما هو دور المؤسسات العربية والإسلامية أمام سياسة خلط الأوراق هذه، وأمام إقحام جوازات سفر تنتمي إلى دول يفترض أن يكون لها موقف قوي من هذه الغطرسة التي تجاوزت حدود احترام الخصوصية الدولية والمواطنة، كي تضيع معالم الجريمة وتقيد ضد مجهول، وكم من أمثال هاتين الحالتين هناك من الحالات التي لم تستطع أجهزة الأمن المحلية في بلدان مختلفة كشف المتورطين، خاصة أن هذا الخليط من الجنسيات داخل إسرائيل يسهل عليها أي تلاعب باستخدامهم أو استخدام وثائقهم. ماذا لو أن هذه الأعمال قامت بها دول أو منظمات عربية على أراض أخرى وباستخدام جوازات سفر دول ثالثة أو رابعة أو خامسة، حينذاك لن يقف أحد أمام سيل العقوبات العسكرية والسياسية والاقتصادية، بل قد يصل الأمر إلى توظيف المنظمات الدولية وقوانينها في سبيل التضييق على من قاموا بهذه الأعمال، سواء أكانت دولة أو منظمة أو أفرادا. ولن يتحقق ما يردع هذه الأعمال إلا بالسلاح نفسه الذي يستخدمه الصهاينة في ذكاء ووطنية وحرص على كرامة لا يليق بغيرها أن يدعي أحد أنه كريم. وما يدريك أن وقفة دبي تفتح بابا كهذا بغض النظر عن إلى من ينتمي الضحية، فقد يكون ضحية الغد ممن يرضى عنه كثيرون.