يعيش الناس في هذا العصر حقبة زمنية شديدة الاضطراب، مشحونة بالمواقف المتناقضة، والأقوال المتضاربة، والأفكار المتعارضة، والنفوس المتنافرة إلى درجة خطيرة على النفس البشرية وهدوئها واستقرارها. حقيقة أصبحت جلية أمام الجميع، لأن ظواهرها شديدة الوضوح في صراعات البشر الدامية، وانسياقهم وراء الدنيا وشهواتها انسياقا شائنا مخيفا، حتى غدت الدنيا هدفهم الأسمى، وغايتهم العظمى، وحتى نسوا الآخرة أو تناسوها، وغفلوا أو تغافلوا عن الغاية الكبرى من خلق الإنسان ووجوده على هذه الأرض. (الخير موجود) نعم لا يُنكر ذلك إلا جاهل بحقائق هذا الكون الكبرى أو متجاهل لها، ونحن نرددها دائما على مسامع أولادنا، وأجيالنا الناشئة حتى نحول بين أنفسهم البريئة وبين مظاهر اليأس والقنوط والاضطرابات النفسية التي انتشرت بين أبناء وبنات المسلمين فضلاً عن غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، نعم، نحن نردد كلمة (الخير موجود) ولكن بهدف حفز الهمم، وتقوية العقول والقلوب على الاستيعاب والفهم الصحيح لما يجري، ولا نرددها للتخدير وتسويغ ما يجري من انحرافٍ في حياة البشر في هذه الحقبة الزمنية. (الخير موجود) وسيبقى موجوداً، ولكن الشر موجود في هذا العصر وجوداً صارخاً أكثر تنظيماً وتأثيراً وضجيجاً، فلا يجوز لنا أن نغمض أعيننا عن الشر وأهله المتحمسين له، المخططين المنظمين المنفذين لأساليبه في حياة الناس، وليس من باب النظر إلى النصف الفارغ من (الكأس) كما يحلو لأصحاب البهرجة الثقافية أن يرددوا هذه الأيام، حينما نقول: إن للشر وأهله في هذه الحقبة الزمنية من النشاط والعمل الدؤوب المتواصل، ما لا يصح لأهل الخير والصلاح أن يتجاوزوه، كلا بل إن التحذير من الشر وأهله واجب شرعي، وعمل اجتماعي، وحقٌ لأهلنا وأوطاننا وأمتنا، بل وللأبرياء من البشر الذين يصطلون بنيران هذه المدنية الهوجاء المغرورة بنفسها، وبما أنتجته من وسائل التقدم المادي المذهلة التي لا تزيد المخدوعين بها من البشر إلا ارتكاساً في الآلام والانكسارات النفسية والانحراف الفكري والخلقي والسياسي والاجتماعي. (الخير موجود) إلى أن تقوم الساعة، ولكنه يحتاج إلى من يحملون إلى الناس بإخلاص ويقين، يحتاج إلى الفرسان الذين يعرفون كيف يسرجون خيول اليقين، وينطلقون بها في دروب الحياة صالحين مصلحين. تحدَّث رجل ذو ثقافة عالية وعلم شرعي ممتاز في مناسبة من المناسبات، وقال كلاماً جميلاً مفعماً بالحب والخير والرغبة في التوجيه الصحيح إلى الحقِّ ففرح به معظم الحاضرين - خاصة الشباب منهم - وأنصتوا إليه الإنصات كلّه، ولكن رجلاً آخر لم يحتمل ما قيل، فرفع صوته قائلاً: يا شيخ أنت الآن تنظر إلى النصف الفارغ من الكأس وتنسى النصف الملآن، (الخير موجود) والناس - ولله الحمد - على صلاح واستقامة. فهبَّ عدد من الحاضرين في وجه هذا المتحدث قائلين: كلنا نعلم أن الخير ولله الحمد موجود، ولكن الكلام الذي ذكره هذا الرجل الناصح صحيح نراه جميعا بأعيننا ونعاني من آثاره، فليتك توفر حديثك لنفسك. وبعد أن هدأ الناس قال ذلك المتحدث الناصح: صدقت أيها الأخ الكريم (الخيرُ موجود) في الناس إلى أن تنتهي هذه الحياة على وجه الأرض، ولكن انتشار الشر، وتسلُّط أهل الباطل، وغفلة كثير من أهل الخير أوصلتنا إلى انحراف كبير يغفل عنه المتشبِّعون بالدنيا وملذاتها المشغولون بها عن الآخرة، فنحن ننبه أنفسنا أولاً والناس ثانياً لتستقر النفوس على الحق، وتصحو من غفلتها عن الشر الذي يقتحم عليها بيوتها، ومدارسها، وجوانب الحياة جميعها، فما أجمل أن نُسرج خيول اليقين، وأن نتعاون جميعاً للانطلاق بها في دروب الخير والصلاح، بعيداً عن مهاوي الشر والضلال. إشارة إلهك حين تدعوه مجيبٌ=