كان ديكارت كثير الأسئلة -كعادة المفكرين والمبدعين- وكانت أسئلته تجعله يشك في كثير من الأفكار حتى يكتشف صلاحيتها، فهو لا يؤمن بالتشيّع الأعمى، وقيمة الفكرة عنده في فعاليتها لا في نسبتها. ومع كل هذه التساؤلات كان ديكارت محبًّا للدّين، وكان يرى أن حقائقه فوق فهمه القاصر، وهذا سلوك العالم العظيم، فهو يؤمن بقصوره الذاتي، ويتهم نفسه. واليوم نجد أن الدين أصبح مرتقى سهلاً لكثير من أدعياء الفهم، وأصبحت الجرأة عليه معلمًا من معالم الجرأة على الجهل والولع بالشبهات. لقد أدرك ديكارت أن أدواته المنهجية الصارمة لا تؤهله لمقاربة النص الديني، وأدرك في نهاية المطاف: إنه -بحسب تعبيره- بحاجة إلى مدد من السماء يجعله فوق طاقة البشر لإكمال هذه المهمة المستحيلة. هذا السلوك العلمي الصارم صار ثقافة عند ديكارت، فلم يتزحزح عنه قيد أنملة، لأن شرف المهمة يقتضي شرف الممارسة، لهذا نزه نفسه عن السقوط في حمأة الإغراءات، وترفع عن عن استخدام المعرفة لتحقيق منافع خاصة، لقد كان هذا هو الباطل في شرع رجل جند حياته للبحث عن الحق والحقيقة. رحلات ديكارت وقراءاته في كتاب العلم والعالم أكدت لديه حقيقة مهمة، وجدها في بناء المدن، وتدوين المؤلفات، فالمدن التي يقوم بنخطيطها مهندس واحد تبدو أكثر جمالاً من غيرها، والكتب التي يبدعها فكر واحد تكون أكثر عمقًا وثراء من الكتب التي تنتجها عقول مختلفة، واستطاع أن يجعل من هذه الحقيقة روحًا علمية فقرر ألاّ يكون مكملاً لأعمال الآخرين، وأن يبدأ التخطيط للمعرفة من نقطة الصفر. وحين يطرح ديكارت أفكاره فهو يعرضها ولا يفرضها، يحكيها، ولا يدعو لاعتناقها، لقد كان يبني له ملكًا فكريًّا خاصًا به، ويجتهد في إصلاح أفكاره. لقد كان يرى ديكارت أن الناس صنفان: صنف يعتقد أنه يمتلك الحقيقة وهؤلاء حين يمتلكون مبدأ التساؤل والشك وليس لديهم المصابرة على تعلم هذه المهارة يقعون في الضلال. وصنف يعتقدون أنهم أقل من غيرهم فعليهم أن يقتدوا بأفكار الآخرين لأنهم أكمل، وأكثر قدرة على إدراك الحقائق، لهذا ابتعد تجنب فكرة الوصاية والتعليم، لأنه جعل هدفه أن يعلم نفسه، ويصحح أخطاءه. لقد كان ديكارت مختلفًا عن هذين الصنفين فلا هو ممن يثق بأفكاره، ولا هو ممّن يرضى أن يسلم عقله للآخرين ليفكروا بالنيابة عنه، مع تقديره لمن يختلف معه، فلجأ إلى التعلم الذاتي، وراضٍ نفسه على أن الحق ليس دائمًا مع الكثرة، وأن الأهواء لها سلطة لا يتنبه لها كثير من الناس وهي سلطة غالبة على سلطة العقل. وقرر ديكارت أن يبدأ بنفسه، وأن يصطحب الحذر ويجافي الاندفاع، ويخضع الأفكار للفحص والتحليل، ويزنها بميزان العقل. إن المعرفة مكابدة لا يصبر عليها إلاّ من ذاق طعمها، وأدرك قيمتها، والناس في هذا كالراحلة في إبل مائة لا تكاد توجد.