تغيير الرغبات لا تغيير العالم ، فالإنسان لا يملك سوى أفكاره ، وعليه أن يهتم بها وينميها ، ويعرف قيمتها ، ويرضى بها ، وهذا مؤداه أن يشعر المفكر بنوع من الرضا النفسي والاستقرار الداخلي الذي يولد السعادة ، ويورث الإبداع ، فالذي يصل إلى هذه الدرجة من الوعي لا يحسد الناس على ما آتاهم الله . إنه يشعر بالغنى والامتلاء الداخلي والحرية أكثر من أي شخص آخر . ونتيجة لهذا المبدأ الأخلاقي الذي التزم به ديكارت قرر أن يخبر مشاغل الناس ؛ ليختار أفضلها ، فكانت النتيجة أن اختار ما يشتغل به هو ، فقرر أن يثقف عقله ، وأن يستمر في منهجه الذي ارتضاه في البحث عن الحكمة . وشعر بلذة خاصة نتيجة هذا الموقف ، وبخاصة عندما اكتشف حقائق في الحياة يجهلها كثير من الناس . بعد هذه الرياضة الفكرية قرر ديكارت أن يستبقي حكمته التي استوثق منها بجانب إيمانه ، وأن يتخلى عما سوى ذلك من الأفكار ، ورحل في العالم ؛ ليقف على ثقافات الناس ، ويراقب تصرفاتهم ، وهو حين فعل ذلك فلكي يتأكد من أن الأرض التي يقيم عليها معماره الفكري أرض صلبة ، وأن أفكاره التي شيدها كانت تنطلق من فروض منهجية قوية . لقد ذاع صيت ديكارت بين الناس ، ولكنه لم يكن مفكرا استعراضيا ، فحول هذه البهجة الداخلية إلى قوة دفع لمزيد من العمل والإبداع ؛ ليكون أهلا لتلك المنزلة التي وضعه الناس فيها . وهذا هو دأب العظماء في كل زمان ومكان الذين يعلمون أن المعرفة تكليف قبل أن تكون تشريفا ، وأن شرف المهمة يقتضي شرفا في الممارسة . إن منهج ديكارت منهج بشري قدّم رؤية عميقة في الوصول إلى المعرفة قوامها التثبت ، ومجافاة الركون إلى الإلف ، فالحق ما ثبت أنه حق ، وليس لأنه يقال عنه حق ، والحقيقة ما ثبتت بعد الفحص والاختبار ، وليس لأن صاحبها فلان ، أو معتقدها علاّن . ومع كل ما بذله ديكارت من جهود مثمرة غيرت مسار التفكير الفلسفي في العصر الحديث فإن منهجه ليس معصوما من الخطأ . وحين نقدر لديكارت جهوده فإننا لا ندعي له العصمة ؛ لأنه لم يدع لنفسه العصمة ، وقال : إنه يعرض تجربته وفكره على الناس ليتعلم منهم ، لا ليعلمهم ، وأن منهجه قابل للمراجعة والنقد الذاتي ، والمحاسبة الدقيقة . ديكارت نموذج فاعل في مسيرة الفكر البشري علمنا أن المعرفة إنجازات وليس شارات ، وأن إدراك الحقائق لا ينال إلا بالمثابرة ، وأن المعرفة سلطة ولكنها ليست تسلطا ، وأن الإبداع لن يتحقق بالتقليد والتبعية ولكنه يتجلى بإعمال الذهن ، والتوليد والتفكيك وإعادة البناء . أنا أفكر إذن أنا موجود كلمة قالها ديكارت ، بعد أن أذهب شبابه ، ووقته وماله في البحث والتساؤل . إنها خلاصة تجربة وثمرة معاناة نضعها بين يدي الجيل الجديد ؛ ليعلم أن الإبداع موقف وسلوك ، موهبة ومثابرة ، وقدرة وإرادة ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .