رينيه ديكارت الجندي الذي ودع الجيوش ومعاركها الطاحنة قرر أن يخوض معاركه الحربية مع الأفكار والمناهج ، ليقدم لنا ثورته التي وصفت بالثورة الكوبرنيقية ، ويطلق عبارته الشهيرة التي دشنت عهدا جديدا للفلسفة المعاصرة عنوانه : أنا أفكر إذن أنا موجود . في كتابه العظيم : مقال عن المنهج يقدم لنا ديكارت نفسه رجلا عاديا ، لديه عوامل النقص أضعاف ما لديه من مقومات التفرّد ، مؤكدا أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس ، وأنه الشيء الوحيد الذي يعتقد جميع الناس أنهم نالوا منه النصيب الأكمل ، فلم نجد أحدا منهم يشكو من ضعف عقله. الذي يمايز بين الناس هو حسن استخدام العقل ، والقدرة على اكتشاف طاقته وإطلاق قواه الخفية ، وأعظم النفوس لديها القابلية لأن تصنع الرذائل كما صنعت الفضائل . لقد كان ديكارت يتمنى أن يكون لديه من القدرة على التذكر ، وسرعة البديهة ما لدى كثير من الناس ، فهو لم يولد إنسانا مكتمل المواهب ، محصنا ضد الخطأ والنقص . الذي ميزه عن سواه كثرة تساؤلاته ، وإيمانه بقصوره الذاتي ، وحذره الشديد من الاعتداد بالنفس ، والغرور الكاذب . ولذلك يقدم لكتابه بأنه سيقدم منهجه للناس ؛ لا ليعلن كماله المعرفي ، ولكن ليضيف آراءهم إلى رصيد خبراته السابقة . إنه يعرض منهجه ولا يفرضه على الناس ، ويقدم لهم قصة رجل قاد عقله ، دون إسداء للنصائح كما يفعل كثير من أنصاف المتعلمين اليوم . عني ديكارت بالأدب عناية شديدة واعتقد أنه سيصبح أحد علماء عصره كما جرت به العادة في السياق الاجتماعي ، لكن ديكارت لم يكتشف بعد ذلك إلا الضلال والقصور الذاتي . واستغرق في تحصيل العلوم التي تكرس الإنسان للمجد الشخصي في زمنه ، ولكن كل ذلك لم يزده إلا نقدا لذاته واستغراقا في البحث عما لم يجده في مناهج التعليم . مع كل هذا لم يعمد ديكارت إلى تسفيه المعرفة انتصارا لنفسه . لقد أعجب بالشعر والبلاغة والرياضيات وما تقدمه من معرفة وجمال ، لكن مبتغاه كان أعظم من ذلك . هذا السلوك يؤسس به ديكارت منهجية في التعامل مع الأفكار والتصورات فما لا يفيدني قد يفيد غيري ، لذلك على الإنسان أن يحفظ للآخرين جهودهم ، فالمرجوح جزء من المعرفة ، ولولا الأخطاء لما تحققت النظريات والكشوفات العلمية . القراءة التي لم يجد فيها ديكارت ذاته ، فتقت له المسالك ، وأنارت له السبل ، ووسعت المدارك ، ومنحته القدرة على تقويم الذات والآخر ، وحررت أفكاره من سلطة المعرفة . وإذا كانت الثقافة احتكاكا بالآخرين كما هي تحكيك للمسائل فقد جعل ديكارت من السفر مصدرا للمعرفة سماه كتاب العالم ، ووجد في أسفاره من أخلاق الناس ما وجده في المعرفة ، فهناك أخلاقيات يتوارثها الناس تبدو من قبيل الشطط المثير للسخرية ، لكنها تبدو لديهم مقبولة ، فكانت النتيجة أن تخلص من كثير من الأوهام التي تنتجها الأعراف فتتسلط على العقل وتخمد أنواره الفطرية ، وتجنب الجزم في الحكم على الأشياء . إن المعرفة تحكيك واحتكاك هذا ما يقوله لنا ديكارت من واقع تجربته الشخصية الفريدة .