• “ها هو مظهري الجسمانيّ قد غدا في حالة يُرْثى لها؛ وها هو كبدي وقد أصابه عشرة أورامٍ، ولم يبقَ لي في هذه الحياة سوى أَشْهُر معدودة”. • “لي من الأولاد ثلاثة، وقد فزْت بالزواج من امرأة لطالما راودني حلم الارتباط بها، وما من جدوى لرثاء حالي الآن؛ فلن يُغيّر من واقعي، ولا واقع أولادي وزوجتي شيئًا”. • “قلت ل(جاي) هل لنا بنظرة على التّقارير الطبيّة؟ لم أجد حرجًا في أنْ أفعلَ ذلك، فقبل كلّ شيءٍ تلك التّقارير تخصني أنا، وليس أحدًا سواي”. • “نظرتُ حولي فوجدت التّقرير الخاص بتحليل الدّم؛ نظرتُ إليه فوجدت به ثلاثين قيمة غريبة؛ ولكن وقعت عيناي على قيمة أعرفها ca19-9- وتلك هي القيمة التي تدلّ على وجود الورم، وعندما نظرتُ وجدتُ الرّقم مرعبًا، فقد كان 208، مع العلم بأنَّ القيمة الطبيعيّة تكون أقلّ من 37. نظرتُ إليها أفكّر قليلاً.. ثمّ قلتُ لجاي: “قُضي الأمر يا حبيبتي!!”. • “وقفتُ أمام شاشة الكمبيوتر أعدُّ الأورام التي تظهرها أشعتي المقطعيّة: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة......”. • “كيف لي أنْ أقضي ما تبقّى لي من أيامٍ في هذه الحياة؟!!”. بهذه الكلمات المختارة نلج إلى كتاب (المحاضرة الأخيرة) الصادر حديثًا في 271صفحة من القطع الصغير ل(راندي بوتش)، الأستاذ في جامعة كارنيجي ميلون. وتعود قصة ذلك الكتاب إلى أنَّ من عادة الجامعات الغربيّة أن تطلب من الأساتذة الذين غدت مفارقتهم للحياة مسألة وقت أن يفصحوا عمّا يشغل تفكيرهم في تلك الآونة؛ بحثًا عمّا لم يقولوا به في ندواتهم، وأبحاثهم، وكتبهم، وعندما طُلب من صاحبنا (راندي بوتش) أن يُلقي محاضرته كان كتابه: (المحاضرة الأخيرة)، فأصبح بحق آخر ما قال به!!. قضيتُ أربع ساعات ونيفًا في صحبة (المحاضرة الأخيرة)، وعشتُ مع صاحبها وزوجه جاي، وأبنائه: ديلان، وولوجان، وكالوي، وتعايشت بصدق مع ما خَلُصَ إليه (راندي بوتش)، وما يعتوره من أحلامٍ، وآمالٍ، وأفراحٍ، وأتراحٍ؛ بجانب نفسٍ توّاقةٍ للحياة منغمسةٍ فيها حتّى النّخاع، وهو يعيش شهوره الأخيرة في نهاية معروفة سلّم بها قبل أن يُسلم بها الآخرون. إنَّ كتاب (المحاضرة الأخيرة) ليس رواية من الروايات الماسخة، أو الماجنة التي تسقط؛ فكرةً، وفنًّا، وبناءً من أول سطر تقرأه؛ بل قصة حلمٍ يحكيها مريضٌ شارف على الموت. إنَّها رواية إنسان كُتبت لا بأدوات القصّة أو الرواية بمقوماتها الفنية؛ ولكنَّها قصةُ حلمٍ تبسط ذراعيها كلّ البسط، وتمدُّ جناحيها كلّ المدّ في لغة محفورة لا بأقلام الرّصاص الباهت؛ ولكنَّها غائرة حتى القاع في لغة تستنطق اللّغة الإنسانيّة الخالدة مضامين وأفكارًا؛ غوصًا في أعماق التّجربة الفرديّة، تتصل بذات الرؤية الإنسانيّة من (راندي بوتش)، مستلهمًا أحلامه، ومباسط فكره، وقد شارف على الموت، ودنا منه دنوًّا. فمن أول سطر أَكْبرتُ الرّجل في صبره الذي تحلّى به بعد أن استفحل الورم، وأصبحت أيّامه معددة -كما يقول بذلك أطباؤه المباشرون لعلاجه-. وأكبرتُ فيه أيّما إكبار هيامه بزوجه وأولاده. وأكبرتُ فيه استنطاق الحكمة من واقعه وأحلامه، فكانت اللسان الناطق، حيث تتراءى في ثنايا ما يقول به. وأكبرت الرّجل وهو يباشر حياته مع مَن حوله يكسوهم حبه وصدقه، ويدثّرهم بلطفه وحنانه، مقدمًا خلاصة ذلك في مد يد المساعدة لكل مَن يحتاج إليه، وهو في وضع صحيّ في غاية الألم والحرقة جلّ من يقوم بذلك وديدنه مصارعة مرض مزمن تغلغل أحشائه: سرطان البنكرياس. ولقد أكبرتُ في هذا الرجل وهو يحكي قصّة أحلامه؛ أقرأُ: صبره في كل حرف. وأقرأُ: دأبه في كل فاصلة. وأقرأُ: حبّه للنّاس والتّطلع إلى مساعدتهم وتقديم العون لهم. إنَّني أقرأُ كلّ ذلك بكل تأكيد: إنَّّه رجل يثير الدّهشة. وفي الأسبوع المقبل نكمل مشوارنا مع صاحبنا (راندي بوتش).. وكل عام أنتم بخير.