** أحيانًا تلعب البيئة دورًا بارزًا في تشكيل ثقافات الشعوب والجماعات، وصياغة توجهاتهم، وتكوين اتجاهاتهم!! ** في البرازيل تشتم رائحة البن، وذائقة الرياضة في ثقافة المواطن البرازيلي، حتّى يخيّل إليك أنك لتكاد تختزل شعب البرازيل في عجوز يحتسي القهوة في مقهى شعبي، وشاب يدحرج الكرة في ملعب كرة قدم! نحن العرب فلوسنا راحت تحت أقدام اللاعبين البرازيليين، وفي “صبوا هالقهوة وزيدوها هيل”.. نتسابق فيما يشبه المسرحيات الهزلية على أن نضخ ملايين الملايين حتى أصبح اللاعب الذي “توها” أمه “زلطته” يفوق ثمنه “عجايز” العلم الذين أمضوا جلّ أعمارهم في المختبرات!! وعزاؤنا نحن العرب أن أكثر العالم يعيش ذات الهوس مثلنا، و“نختلف” نحن قليلاً بأننا نجيد أكثر منهم “صراع الديكة”، و “طحن البن”! ** في الصين.. ثقافة المارد التنيني تعيش داخل القمقم، وتتنفّس خارجه، ولهذا تلقاه أنت في كل أنحاء العالم، ويطل هو عليك من فوق سور الصين العظيم لكي يرى أين أنت، ولكي يعرف أين يكون هو! إنها ثقافة “السبق” و “التحدّي”.. وما أشطرنا نحن العرب في مثل هذه الثقافة، لا أحد يسبقنا و “فشر” لمخلوق أن يتحدّانا، نحن أرباب المنابر، ونحن أهل الكلام! حالة واحدة في العالم فقط أعجزتنا وهي خطب الساعات الطويلة “لكاستيرو”، أمّا غير ذلك؛ فنحن في المقدمة دائمًا! خذ “حكي” للصبح، أمّا على الأرض فنحن لم نصلح في أن نصدّر للعالم حتى “أم فقيع”! ** في الهند.. ثقافة الأساطير لا زالت تسكن الميادين، ووجه “غاندي” لا زال ينفث في الحكاية الهندية شيئًا من الحياة لتدب من تحت التراب ثقافة “الصحوة العلمية”! هناك انكسار “ما” بين الثقافتين.. قد لا تموت ثقافة الأساطير تمامًا، وقد تنتصر ثقافة “العلم”.. وعندنا نحن العرب “الله الله يا عبدالله”.. ثقافتنا تحوّلت إلى ما يشبه الأسطورة، تلعب بنا الشائعات، وتتلاعب بنا الشعوذات، وتحوّلت حكاية “الدجل والسحر وتفسير الأحلام” إلى حكاية أصيلة في حياتنا.. كثر الدجّالون، وتكاثر المصدقون! ** في سويسرا.. ثقافة “الاقتصاد” تسبق ثقافة “الأدب”، وموطن “أروسو” لا ينجب الشعراء والأدباء والرواة. إنه شعب الطبيعة المرتاحة، والقرائح لا تستثيرها إلاَّ المعاناة.. أمّا عند العرب “صابون” اختلطت الراحة بالمعاناة، ولم تعد تدري؛ أمعاناة تفجّر الاقتصاد، أم راحة تستثير الأدب؟! غير أننا أصبحنا “شعراء المليون”، وتحوّل إعلامنا إلى ساحات للشعر، و“المتارسة”، أمّا الاقتصاد “فلك عليه” والدليل هذه الكروش العربية المتضخمة! ** في فلسطين.. ثقافة متفرعة كما أغصان الزيتون، ومتعمّقة كتاريخ أرض الحضارات والديانات، وإسرائيل التي استلبت الأرض تحاول استلاب حتى ثقافة “المنسف” و“الدبكة” و “الجلابيات” المطرزة! بعد أن نجحت في استلاب قضية “احتلال وطن” لتحوّلها إلى مجرد قضية “جدار عازل”! ما نجحنا نحن في استلابه من إسرائيل ومن العالم هو “رمزية الشر”، فبعد أن كان ما قبل الحرب العالمية الثانية “الوغد العالمي” هو اليهودي باعتباره المراوغ والفاسد والمرتشي والفوضوي والشره للمال، أصبح بعد الحرب العالمية الثانية رمز الشر هو العربي الذي يرتدي العباءة والكوفية بدلاً من اليهودي الذي يرتدي القلنسوة ونجمة داوود!! في موريتانيا.. الشعر والعلم بدأت تزاحمهما ثقافة “ثورة الخيام” انقلابات وانتخابات ومظاهرات! ما قبل الانقلاب ديمقراطية يحرسها الرصاص، وما بعده رصاص يحرس الديمقراطية! ولأن موريتانيا بلد عربي؛ فإن الثقافة تخرج من ذات المشكاة بعد أن تحوّل الشارع العربي كله إلى طابور سابع تشبّع بثقافة المؤامرة والمظاهرة، وبحماقة “بالروح.. بالدم.. نفديك يا زعيم”! ** وأحسب أن العالم تتنازعه ثلاث ثقافات؛ ثقافة “السياسة” أو ثقافة العفاف الدنس باعتبار السياسة “كياسة وفراسة ودناسة” بوصف أحد الوزراء المصريين السابقين، حيث طهر التعبير وسواد النوايا! وعلى طريقة أحدهم فإن السياسة ليست كلها برًّا وطهارة.. وليس السياسيون جميعًا في أغلب الأوقات قانتين.. ذاكرين..! ولن أسألكم عن السياسة العربية أين موقعها من الطهر؟ ** وثقافة “الاقتصاد” ثقافة المخلب، أو ثقافة القبضة الحديدية، وكما يقول أحد زعماء الاقتصاد “قد لا تحتاج إلى أن تكون على ظهر دبابة لكي تسيطر على العالم.. هناك بدائل أخرى..”! ولن أسألكم ثانية أين نحن من هذه الثقافة؟ ولا ما هو حجمنا العربي اقتصاديًّا؟.. قد نصل على ظهر دجاجة ذات يوم! ** وثقافة “القوة”.. وفيها يتشكّل الخيار كما يقول “بريجنسكي” ما بين السيطرة على العالم أو قيادته.. السيطرة هي أن تدوس العالم فتبقر بطون الشعوب “احتلالاً وقتلاً ودمارًا وامتصاصًا للثروات”. والقيادة هي أن تأخذ العالم إلى حيث يكون الحب والسلام!.. في الأولى تحوز كره العالم، وقد يرتد إليك حذاؤك ذات يوم.. وفي الثانية يحبك العالم، ولن تجد غير رائحة الورد. ** وفي عمق كل ثقافة تجد “متمرسين” يخلقون الصورة ثم يشيعونها لكي يصدقها غيرهم، هؤلاء هم مَن يقرع الأجراس، ويدق الطبل، ويحققون ما يريدون، أمّا البسطاء العُمي فمشكلتهم أحيانًا أنهم هم مَن يخلق الصورة ويشيّعها ويصدّقها في آن واحد. كل ما استحضر هذا أتذكر كم تعاني مجتمعاتنا العربية من ثقافة الحافة والتهميش، ومع ذلك عليها أن تقبل، وأن تصدق، لعلها ليس لها إلى غير ذلك سبيل. خاتمة: في مجتمع الحواة والأفاعي هناك مَن يمشي فوق الرؤوس، وهناك من تدوسه الأقدام.