كثر في زماننا هذا المتشائمون الذين يرون الحياة سوداء قاتمة قبيحة الملامح، ويضخمون المشكلات، ويعممون الأحكام تعميماً يصيب الناس باليأس والقنوط، وهذا الصنف من المتشائمين من المسلمين هم الذين لم يحسنوا التلقي والتعلم من مدرسة التفاؤل النبوي، تلك المدرسة التي أرسى دعائمها رسولنا صلى الله عليه وسلم، مكملاً بذلك مسيرة التفاؤل التي بدأها قبله الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام. مَن يتأمل سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم العطرة يرى التفاؤل فيها علامة بارزة تظل مصاحبة له حتى في أحلك المواقف وأصعبها. إن المتشائمين يكونون بعيدين - عادة - عن قراءة وتأمل سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومقصرين التقصير كله في تدبر آيات القرآن الكريم التي تشيع في وجدان المتدبر الأمن والاطمئنان، وتبعده عن التشاؤم والقلق والنظرة السوداوية للحياة. لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل مع أصحابه البيت الحرام، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) وهي آية كريمة فرح بها النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً كبيراً وبشر أصحابه الذين أخرجوا من ديارهم، وحرموا من أجر الطواف بالبيت والصلاة فيه، وحثهم على العمرة، وندب الأعراب حوله للخروج معه فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج عليه الصلاة والسلام علناً بألفٍ وأربعمائة في شهر ذي القعدة سنة ست للهجرة المباركة، وساق معه الهدي، وقلده مؤكداً بذلك أنه يقصد الزيارة ولا يريد حرباً، ولكن قريشاً خرجت عازمة على صده عن البيت الحرام، وجاءه الخبر بذلك، فجمع أصحابه وشاورهم في الأمر، فأشار عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه - بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر وحينما بركت به راحلته وقال الناس: خَلأَت القَصْواء، خلأتْ القَصْواء، قال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكنْ حَبَسها حابس الفيل) ومعنى خَلأَتْ بركت عاجزة عن المسير، وهنا قال عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وبدأت هنا الأحداث تتوالى، وبدأت روح التفاؤل تبرز كالشمس مشرقة في ليل تلك الأحداث. فحينما شاع بين الناس أن عثمان بن عفان الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش قد قتل، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة تحت الشجرة قائلاً لهم: (أنتم خير أهل الأرض) وقال: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد)، ولما عاد عثمان سكنت النفوس وسميت البيعة (بيعة الرضوان)، وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). وحينما بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوض معه قال - معلماً أصحابه معنى التفاؤل الحقيقي- (لقد سهل لكم أمركم)، وقال: (لقد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا)، ثم جرى بينهما الصلح التاريخي الذي كان فتحاً عظيماً كما نزل بذلك القرآن الكريم. التفاؤل والاستبشار من أهم صفات الناجحين في الحياة الذين لا يستسلمون للقنوط واليأس والتشاؤم وغيرها من الصفات التي تهزم روح الإنسان وعقله وتجعله يركن إلى الخمول والانكسار. إشارة : ما يئسنا، وكيف يَيْأَس قوم=جعلوا الله ملجأً ونصيرا