لقد رأيت أن أكتب هذا المقال بعد ما لمسته من موجة هلع وذعر عمت العالم بعد اكتشاف حالات لأنفلونزا الخنازير ذكرتني بسيناريوهات مشابهة مثل الأنثراكس وحمى السارس وأنفلونزا الطيور، ذعر وهلع مبالغ فيه طال أهل الاختصاص في الحقل الطبي محليا وعالميا وامتد ليشمل أهل الحل والربط في منظمات وجمعيات الصحة العالمية بل وحكومات الدول بدءاً بالولايات المتحدةالأمريكية وانتهاء بدول صغيرة يقل عدد سكانها عن النصف مليون من البشر، ذعر وهلع لا يستندان على مبررات وأدلة علمية موثقة –حتى الآن- وبالذات فيما يخص إمكانية انتقال الفيروس بين بني الإنسان، بل إن إحصاءات الإصابة به صارت تتأرجح بين الصعود والهبوط تبعاً لأسهم وال ستريت، ذعر إعلامي سيترتب عليه \"بزنس\" أو اقتصاد أو قل تجارة طبية. وقبل أن يسارع البعض بالانتفاضة فيتهم الكاتب بالإصابة ب\" أنفلونزا نظرية المؤامرة\" والتهويم، أذكر نفسي والقارئ -الموضوعي!- بأمثلة لبعض المحن المختلفة الأوجه والتي تحركت فيها الآلة الإعلامية –مبكرا!- لإشاعة الذعر والهلع، ولعلنا نبدأ بمثال في مجال الحروب وهو ما حدث إبان حرب الخليج الأولى من هلع وذعر دفع البعض إلى القيام بأفعال مبالغ فيها للاحتياط من كارثة الحرب الكيماوية، ومثال آخر في مجال الكمبيوتر وهو ما عرف بقضية صفر الألفية والتي تم فيها إهدار ولا أنسى الضجة التي أثيرت حول مرض الأنثراكس في أمريكا والأرباح الهائلة التي حصدتها شركات الأدوية من النفخ في بودرة الأنثراكس أو مسحوق الدقيق -لا أدري!- وقس على ذلك مرض \"السارس\" الذي توارى الحديث عنه مؤخرا بعد أن استفادت صناعة الطب منه، وفي ظني أن الأمراض التي تنتقل عن طريق قلة نظافة دورات المياه في المطارات أكثر وأخطر من السارس المسكين، وجاء دور أنفلونزا الطيور. ثم كانت الخاتمة بأنفلونزا الخنازير. لا شك أننا مطالبون بالأخذ بالأسباب وبحث المشكلة بحثا علميا، وهو ما يعرفه كل طبيب عالم بأصول صنعته، وهو ما يفعله الأطباء على مدار الساعة لكافة الأمراض والأوبئة في جميع أنحاء الأرض من رصد للحالات وتشخيص دقيق لها، وهو ما يجب علينا أن نفعله، وما اعتراضي إلا على المبالغة والتضخيم المفضيين إلى بث الذعر والخوف الشديدين بين الناس، والذي يؤدي إلى الإحباط أو يسبب المزيد من الكوارث المالية والصحية. إن الهلع طبيعة بشرية، ولكنها طبيعة مذمومة ذكرت في القرآن من هذا المنظور (( إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين))الآيات، وذم الذعر مرات في كتاب الله لأنه أكثر ما يكون في ضعاف الإيمان والمنافقين، وتأمل قوله تعالى(( تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت))، وقد يصيب المسلم المؤمن شيء منه في الملمات الحالكات كما جاء في قوله تعالى (( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم, وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ))، فلا يضيق المؤمن ذرعا ببلاء يصيبه من تسليط عدو أو فتك مرض بجسمه، فنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ُسئل عن الطاعون فأخبر بأنه:\"عذَاب يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يشاء فجعلَهُ اللَّه رحمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الآخر\"، ولذا فقد وضع نبينا وقبل توصيات أي منظمة عالمية خطة الحجر الصحي لأي مرض وبائي في قوله \"إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بها فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا\"، وهي الوسيلة والطريقة المثلى لمحاصرة أي وباء أو عدوى على مر العصور والأزمنة، وهو فهم الفاروق عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين خَرَجَ إِلَى الشام ثم عاد وتركها قبل أن يدخلها لانتشار وباء عمواس فيها، على الرغم من مخالفة بعض الصحابة له والذين كانت لهم وجهة نظر أخرى كشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه في قوله: \"إن هذا رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم \". علينا أن ننشغل عند حدوث الأوبئة والأمراض بالأخذ بالأسباب –كل الأسباب الممكنة-، فالمدينة النبوية شرفها الله كانت وبئية أي كثيرة الأوبئة ومع ذلك فلقد عاش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وأصلحوا من شأنها فردموا مستنقعا كان فيها يقال له بطحان، وعلينا أن نتأسى بهم فنسارع إلى حل مشاكلنا البيئية وأولها ردم ما يسمى ببحيرة المسك في جدة، علينا بالعمل الجاد المبني على البحث العلمي في الوقاية من الأمراض والمحافظة على سلامة البيئة، لنبدأ بأمور في متناول أيدينا من خلال عدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، علينا –مثلا- تنبيه المصلين في مساجدنا على تغطية أنوفهم بكمام أو منديل عند السعال أو العطاس، فإن تعذر ذلك فصلاة المريض في منزله خير له من نقل العدوى إلى أصحاء، لننشغل أكثر بحل مشاكلنا الصحية المزمنة والمستوطنة بدلا من الحديث عن طير-واحد- سقط ميتا على سواحل البحر الأسود!، أو مجموعة خنازير نفقت على ضفاف خليج الخنازير، لنوظف تعاليم ديننا الخالدة في الوقاية من الأمراض، فكلما انحرف الإنسان عن الفطرة التي فطره الله عليها ظهر في الأرض المزيد من الأوبئة، فلقد ظهر الإيدز بعد تفشي الزنا واللواط، وظهر جنون البقر بعدما أكلت الأبقار لحوم الميتة، وظهر داء السكري مع التخمة والبدانة والإسراف، وظهرت أمراض القلب والشرايين مع انتشار التدخين والقائمة طويلة طويلة!. لنأخذ بالأسباب المبنية على العلم الثابت، ثم لنرتب أولوياتنا عند التعامل مع المشكلات الصحية حسب أهميتها بالنسبة لنا لا بالنسبة لأباطرة شركات الدواء في العالم، ثم نتوكل على الله دون هلع أو ذعر، فهذا فعل العقلاء!.