يقول المحاور للشاعر الضيف: ألا تعتقد أن الحديث عن القضايا الكبيرة اُستهلك، وأنه يرفع أحيانًا قصائد لا قيمة لها، لمجرد أنها تتحدث عن قضايا ذات وزن ثقيل؟ يجيب الشاعر مستشهدًا ببيت من شعر المتنبي : إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ تبيّن مَن بكى ممّن تباكى ثم يفضل أن يستشهد بقصيدة من نظمه عن أحداث غزة، وفي حسبانه أنها دليل يؤكد أن قيمة شعره، لا تأتي من بشاعة ما حدث في غزة، بل من شعره ذاته. لكن الواقع يقول (وما أبشع ما يقول) إن القصيدة الملقاة تؤكد مقولة المحاور، وعجز الشاعر عن الارتقاء بقصيدته فنيًّا، بحيث لا تكون عالة على غزة وجراحها. عندها لا يسترسل المحاور في التأكيد على عدم جدارة القصيدة بأن تكون مثالاً يدفع عنه سوء التهمة، إمّا جهلاً أو لباقةً وتأدبًا، فيما تشتبه القصيدة بالقصيدة، فلا يعود أمام المشاهد الذي لا يملك العدة الكافية، إلاَّ أن يقع أسير صورة نمطية عن الشعر تمجد المعاني، في معزل عن الطريقة أو القوالب التي صيغت فيها تلك المعاني. المشكلة هنا تكمن في النوايا الحسنة، والتي قد تقود إلى جهنم الشعر وبئس المصير. ما من شاعر إلاَّ ويحسن الظن بقصيدته، ويظن أن عدم التباكي في الموقف الإنساني من حدث ما، هو وحده قادر على جعل القصيدة باكية لا متباكية. وتاريخ الشعر يقول إن بكاء الشاعر لا يعني بالضرورة بكاء قصيدته، إذ كثيرًا ما يبكي فيما قصيدته تتباكى؛ لأنها لا تفعل شيئًا سوى اجترار الصور والمفردات، وإعادة تصديرها في قوالب عفا عليها الزمن. تلك عينة عشوائية فقط.. المحاور قد يكون صحفيًّا، أو مجرد صديق في مقهى. والوسيلة قد تكون موقعًا إلكترونيًّا، أو حتى رسالة وسائط. واللغة قد تكون فصيحة أو عامية.. متقعّرة أو هشة. والشاعر قد يكون تقليديًّا أو حداثيًّا.. مسنًّا هرمًا، أو يافعًا في مقتبل العمر.. فيما النتيجة دائمًا واحدة: كثير من الركام، يغطي ويحجب النادر والعزيز من الشعر في هذه الأيام. إذًا: ليس أمامك إلاَّ أن تتجاهل الفوضى.. تحتفي بالجدران العازلة (وسيدها السقف بالطبع) على طريقة الشاعر اللبناني الشاب (رامي الأمين): “... أفتح باب البيت وأدخل / أخلع ثيابي كلها / وأتمدد عاريًا على السرير ... / الفوضى تعمّ الغرفة / لكن السقف مرتّب ونظيف / أنظر إليه في العتمة الداهمة وأبتسم : / عمت مساءً يا صديقي .”