فالكتاب ثبت الإنسان، ومرجعه، وأنيسه، وجليسه. ولا أدري كيف يمكن للمرء أن يعيش يومه وليله دون أن يمر بالكتاب! ومن المؤسف حقًّا أن غالبية عظمى من المسلمين، انقطعت صلتهم بالكتاب قراءة أو امتلاكًا، فقد كان للكتاب مكانته الثابتة في قلوب المسلمين وبيوتاتهم، وأعجب من ذلك أن يوجد بيننا مَن ينتسب لطلب العلم أو الدعوة أو الثقافة، ومع هذا لا يحرص على امتلاك الكتب، وحيازتها، وجمعها مهما كان موضوعها ومادتها، مع أنّ هذا واحد من أدبيات أهل العلم، إذ كان عدّة طالب العلم، يحرص عليه كأنّه أحد أبنائه، ولهم في هذا مآثر وآثار، حتّى أصبح الكلام في الكتاب صيانته، وآدابه، وآداب قراءته، والأخذ منه، والحفاظ عليه، واستعارته مطروقًا في كتب أدب الطّلب وغيرها في سير العلماء. وقد كان للمتقدّمين ولع بالكتب وجمعها، كما جاء عن المستنصر بالله الحكم بن النّاصر لدين الله عبدالرحمن بن محمّد الأموي، قال عنه الذّهبي: «كان ذا غرام بالمطالعة وتحصيل الكتب النّفيسة الكثيرة -حقّها وباطلها- بحيث أنّها قاربت نحوًا من مئتي ألف سفر وقيل: أربع مئة ألف مجلد.. وكان باذلاً للذّهب في استجلاب الكتب، ويعطي مَن يتّجر فيها ما شاء حتّى ضاقت بها خزائنه لا لذّة له في غير ذلك ». وقالوا إنهم حين نقلوها مكثوا في نقلها ستة أشهر. ومنهم أبو الحسن القفطي إنه قد جمع من الكتب ما لا يوصف، وكان لا يحب من الدنيا سواها، ولم يكن له زوجة، وكانت تساوي خمسين ألف دينار. ومنهم أبو عبدالرحمن السلمي النيسابوري شيخ الصوفية قال عنه الذهبي :«جمع من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه حتى بلغت فهرست تصانيفه مائة أو أكثر». ومنهم الإمام أبو طاهر السِّلفي، قال عنه الذّهبي: «استوطن الإسكندريّة إلى أن مات ينشر العلم، ويحصّل الكتب الّتي قلّ ما اجتمع لعالم مثلها في الدّنيا». ومنهم القزويني صاحب التّفسير الكبير، ذُكر عنه أنّه حصّل أحمالاً من الكتب.. وملك من الكتب ما لم يملكه أحد، وكانت أزيد من أربعين ألف مجلّد وقال: «قد بعت رحلي وما في بيتي». ومن أخبارهم أنّهم كان أضنّ ما يكون بكتبهم، لا يساوون في ذلك بينها وبين نفيس الأموال: قال أحد أدباء خراسان: أجود بِجُلِّ مالي لا أبالي=وأبخل عند مسألتي كتابي وذاك لأنني أنفقت حرصًا=على تحصيله شرخ الشباب