** في كل مناسباتنا نجد موروثنا.. وما أكثره وما أجمله حاضرًا!.. في ذاكرتنا لا زالت تسكن الكثير من الحكايا، والسنن المجتمعية.. بعضها اندثر، وبعضها بقيت له بقايا!!... وتظل (الجدلية) التي يغرق فيها البعض، أين النصف (الأحلى) من الحكاية؟. في الأمس ام اليوم؟. البعض وخصوصًا الكبار يترحمون على ذلك الزمن الجميل.. والبعض الآخر يرى الحاضر حلوًا حتّى وان تنفس فيه تحت الماء!!. ولن نستنطق حكمًا، أو نجعل أحدًا خارج حدود الزمن الذي يعيشه.. فالقضية نسبية وفق الفعل والحركة والرؤية والانطباع لكن المؤكد أن الامس واليوم يمثلان امتدادًا طبيعيًّا لحركة الحياة، ولكل مرحلة انطباعياتها التي يتفق الناس عليها أو يختلفون!!. ** لا نسرح كثيرًا، ودعونا نعود إلى العيد كواحد من أهم المناسبات في حياتنا المليئة بالكثير من العادات والتقاليد. واسمحو لي أن آخذكم إلى عيد ريفي قديم.. ** البداية من “عيد الأموات”، وهي ليلة تحرّي هلال العيد.. حيث تتجمع الأسر عند كبيرها، ويتم ذبح الذبائح، وعند الذبح يرددون: اللهم اجعلها إلى أرواح أمواتنا”!. قال أبي: لم نكن نعي كصغار - معنى هذا النذر - لكن كنا نستغرق في أكل اللحم وهم يترحمون على موتاهم فردا فردا . وما إن يروا الهلال حتّى يعلو التهليل والتكبير، وتنتشر رائحة البارود ابتهاجًا بقدوم العيد السعيد ثم يتحول المساء إلى حركة لا تهدأ في كل البيوت!. في الصباح يذهب الناس إلى المشهد بعد الصلاة يتجمع أهل كل قرية، أو حيٍّ ثم يقومون بزيارة بيوت الحي بيتًا بيتًا.. ومن بيتٍ إلى بيتٍ يرددون الأهازيج والقصائد. وفي مسمعي لا زال يتردد صدى صوت العم عبدالله يردد: “الله يعيد العيد.. عليكم يا جماعة”، ونحن جماعة -كبارًا وصغارًا- نردد ما يقول: في كل بيت نأخذ ما تيسر، فليس المهم أن تأكل، الأهم أن تدخل بيوت أهل حيّك، وذلك إعلان عن الصفاء والحب، وأنه لا ضغينة، ولا أحقاد في يوم العيد، ويستمر هذا الطواف الجميل من الصباح إلى ما بعد الظهيرة. ** العيد في المدينة لا يختلف كثيرًا عن القرية. شروق شمس العيد هو بياض في النفوس. كان الناس في العيد يغسلون قلوبهم أولاً. اليوم مع الأسف يهمنا نظافة (هندامنا) أكثر من دواخلنا!!. فالناس أصبحوا يقيّمونك من خلال موديل ثوبك، ونوع شماغك، ولون بشتك.. لا يهم الداخل .فالأثمان أصبحت للخروق وليست للمخلوق . ** الناس في العيد كانوا مشغولين (بإنسانياتهم) يتحسسون بيوت الحي المغلقة على حوائجها يستنبتون الابتسامة فوق شفةٍ مكلومة!. والعيد الحقيقي عندهم أن يتشاطر الجميع الفرح. اليوم أصبح الإنسان مشغولاً بنفسه، لا يسأل عن أقرب المقربين إليه. وعلى ذات السياق من التزاور، بيوت القرية يتزاورون في المدينة، ويصل الحرص أن كل زائر يضع اسمه وتوقيعه عند البيت الذي يزوره فلا يجد ربه!!. ** اليوم تقطعت الزيارات، واستبدلوا بها رسائل الجوال.. غابت الوجوه عن الوجوه، والأقدام عن البيوت . تماما مثل ما غابت الكثير من العادات والتقاليد الجميلة!!. ولا تدري هل العيب فينا نحن أم في زماننا؟ هل نحن الذين تنكرنا لتلك الموروثات الجميلة، أم هي انعتقت منا بفعل هذه المتغيّرات والتحوّلات؟!. أيًّا كانت الأسئلة، وأيًّا كانت الأجوبة فإن النتائج هي هذه الحالة من التغريب التي نعيشها عن موروثنا، وعن طبائعنا وعن ناسنا بل وحتى انفسنا. ** أعود إلى “عيد الأموات”.. سألتُ صديقًا ممّن كنت أتوقع أن سيقانه نبتت في داخل بيئات كانت تمارس مثل تلك الطقوس.. قلتُ: هل سمعت عن “عيد الأموات”؟؟ قال: لا..! وهل للأموات عيد؟؟ ثم أردف: نحن يا سيدي عجزنا في هذا العيد الذي نكاد نموت فيه ونحن أحياء!.. قلتُ: ولماذا تستغرب إذًا أن يكون هذا العيد إحياء للأموات؟!. يا سيدي.. هناك أحياء يعيشون أعيادهم في أكفانهم أرواح شبه محنّطة.. منكسرون في حياتهم، أو منكسرون في دواخلهم.. لا فرق. ففي النهاية أشباه أموات يسيرون على الأرض. وهناك أموات تحت التراب، ولكنهم أحياء تشعر وكأنّهم معك، ومن حولك، وبجانبك. هل عرفت يا سيدي ما هو الفرق بين الحياة والموت، وبين أن *** للموت عيدًا، تمامًا مثل ما نهبه للحياة؟!. ** التقط صاحبي طرف الحديث قائلاً: إن ما تقوله لا يبارح كثيرًا واقعنا المؤلم.. ماذا يحدث في فلسطين؟ وفي الصومال؟ وفي العراق؟ وفي غيرها من أقطار عالمنا العربي والإسلامي المسكونة بالمآسي من الحد إلى الحد؟ ماذا يمكن أن نسمّي هذا؟ هل هو موت حياة؟ أو هو موت أمة؟ أم موت ضمير؟ قلتُ لا تهم التسمية.. المهم عندما نحتفي بالموت على هكذا مصائر، فإن الأرواح هي النذر المذبوحة بلا ذنب، ويصبح عيدنا حالة استثناء في عالم الأموات. ليظل السؤال الثائر : هل هو عيد الموت أم موت العيد ؟؟!! خاتمة: كل عام وأنتم بخير. ************************** أحد أبناء منطقة الباحة ، نائب رئيس تحريرسابق في صحيفة \"الندوة\"، كاتب حالياً في صحيفة \"المدينة\".