أجرت صحيفة عكاظ لقاء مع المستشار في الديوان الملكي الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان، على خلفية الفتوى التي أحدثت ضجه في وسائل الإعلام في موضوع رضاعة الكبير ، وهذا اللقاء نقلاً عن صحيفة عكاظ : ذكرتم أن هذه الفتوى لكم قديمة وليست جديدة، إذن ما هو سبب الضجة التي أحدثتها، هل هي بسبب المنطق حتى لم يعد هناك حدث أكثر منها ضجة في الوقت الحالي في الصحف أو في المنابر؟ هذه الفتوى لم يكن لها الأثر لولا أن البعض أرادوا تشويه صورة من أفتى وليس تشويه صورة الفتوى فاقتنصوها من التلفاز السعودي لما سئلت عن فتوى في الرضاع، فبينت كلام أهل العلم في ذلك وبينت الراجح والذي قال به جمع من الأئمة والمحققين، وقال به جمع من الصحابة كما يروى عن علي (رضي الله عنه)، وهو ثابت عن عائشة (رضي الله عنها)، والأصل في هذا الحديث الذي في صحيح مسلم واتفق المسلمون على صحته، حديث سالم مولى أبي حذيفة، فقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) سهلة امرأة أبي حذيفة بإرضاع سالم وهو كبير، لكونه يعيش بينهم كالابن وليس في هذا ما يقدح في الشريعة الإسلامية، بل هو من محاسنها، وقد أعجبتني كلمة أحد الصحافيين عندما قال لي إن هذه الفتوى تدل على أن الشريعة الإسلامية شريعة سمحة عندها الحلول لجميع المشاكل. وقد اتصل بي عدد كبير من الناس يرحبون بهذه الفتوى لأن فيها حلا لمشاكل البعض، ومثل هذه الحالات أوجدت لها الشريعة حلا ولله الحمد وهو إرضاعه بأن تحلب من ثديها في إناء ثم يسقاه خمس رضعات في أوقات مختلفة حتى تصبح هذه الرضعات محرمة، ويصبح ابنا لمن أرضعته ولصاحب اللبن، وتنتفي بذلك الخلوة المحرمة وينتهي بذلك الحرج الشديد في دخوله إلى هذا البيت وخروجه، وهذا معلوم عند الناس قديما، وأعرف أن عالما (لا أحب ذكر اسمه) من علماء نجد في الرياض كان لديه شخص يعيش في بيته ومضطر لبقائه في هذا البيت فأرضعته امرأته وأصبح الناس يعرفون هذا ولا ينكرونه. كما أن الشيخ عبد الله بن عقيل وهو عالم جليل، أخبر بعض طلبة العلم هذه الأيام أن الشيخ محمد بن إبراهيم أفتى شخصا كبيرا (لا أحب ذكر اسمه) بهذه الفتوى عندما احتاج إليها. حتى ولو لم تثبت فإن شيخ الإسلام ابن تيمية قرر هذه المسألة وكذلك ابن القيم في زاد المعاد ورد على المخالفين الذين ادعوا النسخ، أو أنها حالة خاصة، وفند هذه الأقوال بعدم وجود دليل على الخصوصية فالقواعد الأصولية تفيد أن النص على عمومه ما لم يرد تخصيص له من الشرع بدليل صحيح. الرد القاطع • إذن هذا هو الرد على من قال إنها دعوى شاذة أو حالة خاصة؟ رد ابن القيم في زاد المعاد على من قال إنها دعوى خاصة لا يمكن تطبيقها على غير سالم ردا مفحما، وأطال النفس في الرد على كل المخالفين، ويختار هو وشيخ الإسلام ابن تيمية ما اختاره من قبلهما، عائشة وعلي (رضي الله عنهما) وعطاء ابن أبي رباح والليث، واختاره أيضا الشوكاني في نيل الأوطار والسيل الجرار، والصنعاني في سبل السلام، والشيخ الألباني في تسجيل صوتي، والشيخ أحمد النجمي، وغيرهم. ونقل الخلاف الشيخ عبد العظيم أبادي، والشيخ عبد الله البسام (رحم الله الجميع)، وهناك من طلبة العلم من يقول إنه سمع الشيخ ابن باز في أحد الدروس يرجح هذا القول. وهذه الفتوى دلت عليها سنة صحيحة لا يختلف في صحتها اثنان، والواجب احترام النصوص الشرعية واحترام العلماء القائلين بها، ولا يجوز أبدا أن يستهزأ بسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا بالعلماء المفتين، وهذا مما يقدح في دين وعقيدة الشخص. وللأسف أن البعض من طلبة العلم والدعاة الذين يدعون إلى احترام آراء الآخرين، نجدهم قد ألغوا هذه المرة كل ما كانوا يدعون إليه وأخذوا يتندرون بالمسائل الشرعية ويتقمصون شخصية أولئك الذين كانوا ينتقدونهم، وأصبحوا هم الذين يستهزئون ويسخرون بالسنة وبفتوى العلماء. • البعض يتساءل: لماذا يفتي العبيكان هذه الفتوى بالذات، والبعض يرى إنها شاذة أو أنكم تريدون من إطلاقها الشهرة؟ البعض لم يعلم أنني أفتيت في التلفاز بناء على سؤال ورد ولم أقصد عرض هذه المسألة في الإعلام، لكن لما اقتنصها بعضهم ونشرها في الإنترنت وبدأ يشوش على الناس ويصورها بغير الصورة الصحيحة، اضطررت إلى إعداد بحث ونقل كلام العلماء وذكر المصادر وشرحت هذه الفتوى شرحا وافيا، ولعل الله عز وجل أراد أن تنشر هذه الفتوى المغمورة عند أهل هذا الزمن والتي ليست خافية لدى السلف، وأراد أن تظهر هذه الفتوى لأجل أن تحل مشاكل بعض المسلمين الذين يحتاجون إليها ولم يعلموا عنها. وأما إرادة الشهرة فهذا اتهام ليس بجديد، بل كلما أفتيت فتوى قيل يريد الشهرة، ألا يكفي أن أشتهر بفتوى واحدة؟، بل الغريب أنني اتهمت بهذه التهمة حتى في التنبيه على وقت صلاة الفجر. الحاجة للفتوى • هل هناك حاجة في هذا الزمن لهذه الفتوى؟ نعم هناك من لا يولد له ويأخذ شابا مجهول الأبوين ليكون كالابن له يتربى في بيته ويعيش معه فيطلب من أخت زوجته مثلا أن ترضعه، كما فعلت عائشة (رضي الله عنها) وكما في قصة من ربته امرأة عمه فلما كبر اضطرت لإرضاعه حتى يستطيع الدخول عليها، كما أن نشر العلم واجب، والمسألة موجودة في بطون الكتب ولم يخفها أحد من شراح الحديث ولا الفقهاء حتى الذين يرون عدم الجواز ، والفتوى كانت منتشرة بين أهل الرياض وغيرهم لا ينكرها العلماء، ومنهم من استفاد منها كأن يكون هناك يتيم يعيش في أسرة أحد أقربائه وقد تعدى سن الرضاع ويحتاجون إلى أن يعيش بينهم. • هل هناك علماء كبار لا يعرفون بوجود هذه الفتوى؟ نعم، ليس كل عالم ولو كبر سنه وكثر علمه وعلا منصبه يعرف كل شيء، كما قال ابن القيم إن خفاء بعض السنن على كبار الصحابة أمر معروف، كما خفي على عمر (رضي الله عنه) موضوع الاستئذان واستنكره ونسي موضوع التيمم من الجنابة وغير ذلك، والواجب على العالم وطالب العلم إذا سئل عن مسألة لا يعلمها أو سمع فتوى استغربها أن يرجع إلى كتب أهل العلم قبل أن يفتي أو ينكر على المخالف. ضغوط كبيرة • ذكرت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أنك تعرضت لضغوط إثر هذه الفتوى من علماء كبار ومن بعض الشخصيات، وأنك حصرتها فقط في حالتين، هل هذا حقيقي؟ كل هذا الكلام باطل، ولا يجرؤ أحد على أن يضغط علي، وأنا معروف ولله الحمد بآرائي الجريئة المستندة إلى الدليل، ولم يتغير رأيي، ولم أحصرها وإنما مثلت بحالتين للتوضيح، وإنني لم أتراجع في حياتي عن أي فتوى، يعرفني طلابي وزملائي ويدركون أنني أفتي بفتاوى منذ زمن طويل ولم أرجع عن شيء منها لاعتقادي بصحتها، ولكن لم تنتشر فتاواي إلا بعد أن ظهرت في الإعلام. والحقيقة إنه لما قال المذيع هل هي خاصة بسالم؟، قلت لا إنما هي عامة، أي في الحالات التي تشبه حالة سالم، ففهمها الجهال أنني أقول إنها عامة لكل شخص ولو بدون حاجة. وبعضهم فهم معنى الأجنبي أنه غير السعودي، وإنما الأجنبي عند الفقهاء وفي الشريعة هو الذي ليس محرما للمرأة، هذا هو المقصود بالأجنبي، لكن هؤلاء أخذوا هذه الكلمات وحرفوها. • ما الحالتان اللتان حصرت فيهما الفتوى؟ لم أحصرها في حالات معينة، وإنما مثلت لحالتين يمكن أن توضحا للناس معنى ما أقول، هناك من أدخل الخدم والسائقين وهذا خطأ ولم أذكرهم ولا يصح أبدا أن يدخل هؤلاء ضمن الفتوى، لأن الخدم والسائقين يذهبون ويأتي غيرهم. لا يمكن لعاقل أن يقول إن الرضاع يكون بهذه الطريقة، وإلا ليس هناك معنى لقول الله عز وجل: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» وإنما المقصود حالات خاصة كحالة سالم، ومن استهزأ بي أقول لهم إذا لم يحترموا عبد المحسن العبيكان فليحترموا العلماء الأجلاء والأئمة المقتدى بهم ممن قالوا هذا القول، وأيضا السنة التي وردت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حتى لو قيل إنها خاصة بسالم فهو استهزاء بالسنة، مع أنه لا يوجد دليل على الخصوصية. • بعضهم يقول إن مثل هذه الفتاوى هي فرصة للطعن في الإسلام؟ ليس بصحيح، فالرضاع لا يوجد أصلا إلا في الإسلام حسب ما أعلم، بل إنني أعتبر أن غير المسلمين سينظرون إلى الإسلام على أنه دين يحل المشاكل ولا يسد الأبواب في وجه بعض القضايا والمشاكل التي يمكن أن يوجد لها حل. شجاعة العلماء • هل جاءتك اتصالات من بعض العلماء الذين يثنون على شجاعتك؟ نعم جاءتني اتصالات من علماء كبار ومن مسؤولين في الدولة يؤيدون هذه الفتوى، ومن المؤسف أن بعضهم لا يصرح برأيه خوفا من الاعتراضات. • ممن يخافون؟ بعضهم للأسف يخافون من العامة ومن بعض العلماء المعارضين، مثل فتوى حل السحر. • حل السحر بالسحر؟ نعم، هناك أعضاء في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة قالوا لي إننا نفتي بما تفتي به. • ما ردك على من قال إن مثل فتاوى الإرضاع يجب ألا تخرج إلا من هيئة كبار العلماء أو مكتب المفتي، وألا تصدر من العلماء المفردين لأنها تسبب بلبلة بين الناس؟ لم يأت في كتاب الله ولا سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو أقوال أهل العلم أن الفتوى لا تصح إلا من أشخاص معينين أو هيئة معينة، بل لم تنص أنظمة هذه البلاد المباركة على ذلك، وإنما أنشأ ولاة الأمر هيئة كبار العلماء لإصدار فتوى في بعض النوازل وما تحتاج إليه الدولة في عملها، ولا يصح أبدا قصر الفتوى في جميع الأمور على هذه الهيئة، بل ويستحيل أن تستطيع الهيئة الإجابة على كل فتوى يحتاجها مئات الألوف من المسلمين في كل وقت. • يرى البعض أن الرضاعة من المجاعة، أو أنه لا رضاعة بعد سن العامين للطفل؟ فكيف يرضع الكبير وكم كمية الحليب اللازمة لإشباعه؟ المقصود بالمجاعة أن يكون هناك شرب حقيقي للبن وليس مجرد امتصاص الثدي ولو لم يكن به حليب، ولا أعلم أحدا من أهل العلم اشترط الجوع ولكن من المعلوم أن غير الجائع لا يتقبل الطعام، وبالنسبة لإرضاع الكبير فهي حالة خاصة لمن احتاج إلى إرضاعه، واستثناء من عموم النصوص التي تدل على اشتراط الحولين تيسيرا من النبي (صلى الله عليه وسلم) لهذه الأمة، حلا لمشكلة يعاني منها من يوجد بينهم من هو في حكم الابن وفرد من أفراد العائلة كما أوضحته في بحثي المنشور سابقا والموجود في موقعي في الإنترنت. وأما كيفية إرضاع الكبير فكما يفهمه العقلاء وكما نص عليه العلماء أن المرأة تحلب في إناء و يسقاه بعد ذلك الكبير قال ابن عبد البر: «هكذا إرضاع الكبير كما ذكر، يحلب له اللبن ويسقاه، وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل فلا، لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء، وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة وإن لم يمصه من ثديها، وإنما اختلفوا في السعوط به وفي الحقنة والوجور» (التمهيد ج 8 /ص256 257). الفتاوى الشاذة • هناك لمز وغمز من دعاة وصحافيين ورسامي كاريكاتير على فتوى الرضاع، بماذا ترد على مثل هذا الكلام؟ الذين نقلوا هذه الفتوى نقلوها بالصوت ويمكن لأي أحد أن يستمع إليها وليس فيها ذكر سائقين أو خدم، وليست فيها العموميات أبدا، وإنما هي كما أقولها الآن، لكني لما رأيت أن الأمر التبس على البعض وهناك من أراد التشويه أوضحتها أكثر. أما بالنسبة للذين يهمزون ويلمزون فإن البعض من الحاسدين الحاقدين وهؤلاء أعلمهم يقينا فرحوا بهذه الفتوى لأجل أن يوهموا العامة أنني خرجت بهذه الفتوى عن الطريق الصحيح، وأنني آتي بأمور كما يقولون شاذة، أما خطيب المسجد الحرام فكان يرد على المستهزئين والمتعالمين ولم يقصدني، حسب ما أفادني بذلك أخوه فضيلة الشيخ ناصر آل طالب. هناك من طلبة العلم من قال إن بعض فتاواي شاذة، بل هناك من قال إن فتوى الرضاع فاسدة، وهذا يدل على جهل بالغ فلا يصح أن توصف السنة وفتوى بعض الأئمة بالفساد، وأقول لهم ما معنى الشذوذ؟، أحرجت من قالها في مؤتمر الفتوى الذي عقد في رابطة العالم الإسلامي قبل أكثر من سنة وطلبت منهم أن يحددوا معنى الشذوذ، فلم يستطيعوا ولم يتفقوا في إعداد التوصيات على ذلك، وقلت لهم إن كان المقصود بالشذوذ الفتوى التي قال بها البعض دون الآخرين فهذا مدح وليس بذم؛ لأن الله تعالى مدح القلة وذم الكثرة فقال: «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله»، وقال: «وقليل من عبادي الشكور»، وقال: «وقليل ما هم» وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، كذلك قال العلماء لا يصح الإجماع مع خلاف شخص واحد، لأن الحق قد يكون معه ولو خالف الجميع، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في وقته حيث خالف أكثر علماء عصره في مسائل، فمدح بذلك وأصبح العمل على رأيه. • هذا يعني أنهم لم يحرروا المصطلح؟ نعم، ولذلك من الخطأ أن يقال إن هذه فتوى شاذة على سبيل الذم، بل يقال إن هذه الفتوى لم يقل بها إلا القليل وقد يكون الحق معهم. • إذن فأنت ترى أن الشاذة ليست سيئة دائما؟ نعم وللأسف أن البعض وصف فتوى حل السحر بالشذوذ مع أنه قال بها جماهير أهل العلم ولم يخالف من الحنابلة سوى اثنين أو ثلاثة، ووجه عند المالكية، ولم يخالف من الحنفية والشافعية أحد فيما أعلم، حيث إن الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لم ينقل خلافا عن أحد في هذه المسألة، بل ذكر المجيزين فقط وممن جوزها الشيخ محمد بن عثيمين في شرحه للسفارينية وبصوته في موقعه وموقعي . إذا كان هذا هو قول جماهير أهل العلم فكيف تكون شاذة؟، الذي يقول ذلك جاهل لا يعرف معنى الشذوذ ولا يعرف كلام أهل العلم، ولو عرفه وعلم أن الجماهير يقولون بهذا القول وكلف نفسه قراءة كتابي «الصارم المشهور» الذي هو منشور في موقعي، لعلم أنه لم يفهم ولم يطلع أصلا واستعجل في الإفتاء ولم يكلف نفسه البحث، وإنما يفتي بما رسخ في ذهنه، ولم يكلف نفسه الاطلاع والتحري وتبرئة ذمته أمام الله عز وجل قبل أن يصف هذه الفتاوى بهذه الصفات، وقوله مردود عليه. وقد تحديت العلماء جميعا في وسائل الإعلام أن تعقد بيني وبينهم مناظرة في وسيلة إعلامية مرئية ومسموعة حتى يعرف الناس من هو المحق ومن هو المخطئ ومن هو الذي يعرف معنى الشذوذ. للأسف ذهب العلماء الذين يتحرون الدقة في إطلاق الألفاظ ويراعون جانب التقوى في عدم وصف الآخرين بالافتراء والشذوذ والقول على الله بلا علم وأنه يفتح باب شر وشرك، وكأنهم لا يدرون أنهم يتهمون أئمة وعلماء أجلاء في هذه الأمة بأنهم يفتحون باب الشرك، هل جماهير العلماء والأئمة يفتحون باب الشرك؟، هذه مصيبة. أرجو من هؤلاء العلماء وطلبة العلم أن يراجعوا كتب أهل العلم قبل أن يطلقوا الكلمات الجارحة والتضليل والتجهيل وهم لم يعرفوا حقيقة هذه الفتوى ولم يعرفوا من قال بها، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث. ملاحقة قضائية • هل تنوي مقاضاة أو ملاحقة من تعرض لك أو غمزك من الدعاة والكتاب؟ أفكر جيدا في هذا الأمر، وإن شاء الله سأجد الطريقة التي تضع حدا لمن يفتري على الإسلام وأهله. لا يهمني كثيرا شخصي ولكن يهمني العلم الشرعي وتهمني سمعة العلماء الأجلاء، وقبل ذلك سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يسخر منها ويستهزأ بها، وأن يفتح باب لأصحاب الأهواء والأغراض. • ولكن البعض ذهب إلى أن العامة استنكروا هذه الفتوى، هل استنكروها لعجبها أم لأنهم لم يسمعوا بها؟ أعتقد أنه لو وضح العلماء للعامة في وسائل الإعلام أن هذه مسألة خلافية ولا يجوز لأحد التعرض للسنة ولأقوال العلماء والأئمة، وطالبوا الجميع باحترام آراء العلماء، لما حصلت هذه البلبلة التي أوجدها الحاقدون، ولكن من المؤسف أن بعضهم سكت و البعض الآخر أوهم العامة أنه لم يقل بها أحد من العلماء السابقين، كما أن الحسد له دور في المسألة فالحسد بين العلماء موجود منذ القدم. كتمان العلم • تحدثتم عن أن بعض العلماء يعرف بعض العلم ويخفيه عن الناس خوفا من العامة أو بعض الجهات، هل من علمائنا من أخفى أمورا ترتب عليها إضرار بالناس، وهل ينطبق على هؤلاء حديث «من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار»؟ لا أستطيع القول إن هؤلاء حدث منهم التسبب في حصول ضرر، وقد يكون حصل فعلا، ولكن أقول إنه يجب على العالم ألا يخشى إلا الله عز وجل، وألا يخاف من ألسنة العامة ولا تسلط من هو أعلى منه. • هل يجوز شرعا إخفاء بعض العلم عن الناس؟ لا يجوز، لقوله تعالى: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه» ولقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار»، مثل هذه الفتوى يستفيد منها الناس، لكن في بعض المسائل التي قد تحمل الناس على التكاسل وتتعلق بالأخبار فلا ينبغي إظهارها، كما قال نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم): «لا تخبرهم فيتكلوا»، لكن إذا كانت هناك حاجة للناس في هذا العلم مثل المتضررين من السحر وهم عدد كبير فلا بد من نشره عملا بقوله (صلى الله عليه وسلم): «الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، ولقوله (صلى الله عليه وسلم): «أحب لأخيك ما تحب لنفسك». • ماذا عن عدم احترام العلماء للآراء الفقهية المختلفة، وهي آفة موجودة لدينا؟ لا يزال يوجد في طلبة العلم والعلماء وللأسف من يصف آراء المخالف له بالبطلان والفساد، على الرغم من قوة دليله ووجهة نظره المستمدة من فهمه الصحيح للنص، وعلى الرغم من اتباعه لأئمة سابقين في هذا الرأي، ومع هذا كله ترى فيهم من يصف قوله بالبطلان والفساد. • البعض تحجج بأن فتوى الإرضاع قد تفيد المجتمع، ولكن هناك قضايا أكثر إلحاحا مثل قضايا تكافؤ النسب التي لم تجد حلا، وقضية تحديد سن زواج القاصرات التي لم تحل، ما رؤيتك لهذه الأقوال؟ المجتمع في حاجة إلى أمور الدين كلها، وقد تكلمت عن قضية زواج القاصرات في أكثر من مجال، وكل هذه القضايا لها حل وقد تكلم عنها العلماء. ظهور العلماء • من القضايا التي ذكرتها قضية الظهور في وسائل الإعلام، وكثير من العلماء وبعض كبار العلماء لا يظهرون في وسائل الإعلام كثيرا، وحتى فتاواهم قليلة ومقتضبة، هل هذا نوع من عدم نشر العلم؟ الظهور في الإعلام مطلوب، وسمعت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يطلب من العلماء والمشايخ عندما اجتمعوا عنده لمناقشة محاضرات الجامع الكبير ويقول: اظهروا في التلفاز واظهروا في الإعلام، هذه وصيته التي يوصي بها المشايخ والحاضرين؛ لأن في ذلك خيرا كبيرا، ولو حصلت هذه الوسائل لعلمائنا السابقين والأئمة لاستغلوها استغلالا كبيرا لنشر العلم والخير والدعوة. • هل يمكن القول إنها ضرورة شرعية؟ هذه الوسائل أصبحت حجة على العلماء إذا لم يستغلوها في إظهار العلم والدعوة إلى الله، أما السابقون فهم معذورون وبذلوا جهدهم فيما يستطيعونه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لكن لما أوجد الله هذه الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة فلا ينبغي أن ينغلق العالم على نفسه ويبتعد ويخفي خيرا كثيرا عن الناس، فالله عز وجل يقول: «ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين». تجريم المعتدين • هناك قضية أخرى هي تجريم المعتدين في قضية الحديث عن العلماء، حيث كثر الهمز واللمز والاعتداء بالأقوال على العلماء وعلى فتاواهم والتقليل من شأنهم، هل هناك من ضرورة للحد من قضية الإساءة للعلماء؟ لما رأى بعض الناس توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (حفظه الله ورعاه) في إعطاء الناس الحرية لإبداء الآراء، استغلوها استغلالا سيئا لم يكن يقصده رعاه الله ولا يتفق أبدا مع قواعد الشريعة ولا مع النظام الأساسي للحكم ولا مع نظام الإعلام، فالحرية مطلوبة للناس في إبداء آرائهم ويسمح لطالب العلم أن يبدي رأيه الصريح في مسألة خلافية وأن يبين وجهة نظره، مع الأدب والاحترام والتقدير للمخالفين، لكن لا يجوز لغير المتخصصين في العلم الشرعي أن يخوضوا فيه. الحرية لا تعني أبدا أن يقدح إنسان في الآخرين أو أن يلمز أو يسب ويشتم ويستهزئ ويستهتر إما بالدين أو ببعض الناس مهما كان وضعهم، هذا كله مرفوض في الشريعة والنظام، كذلك الحرية في وسائل الإعلام لمن ينتقد جهة خدمية مثلا لتقصيرها في واجباتها وهذا ما يرحب به ولي الأمر ويفرح به حتى تتضح الحقائق ويعرف المقصر في واجباته، لكن لا ينبغي أن يمس شخصية الإنسان وما يتعلق بذاته وأسرته وخصوصياته. أما البحث والنقاش مع التزام الأدب التام فهذا شأن العلماء السابقين في عقد مجالس المناظرات التي كانت تعقد حتى في مجالس الخلفاء، فالمناظرات مطلوبة والبحث والنقاش مطلوبان، بل وامتلأت كتب المطولات منه مثل كتاب المغني وغيره في مناقشة العلماء بعضهم بعضا. • كثر من بعض طلاب العلم الذين يفتون بدون علم فيضلون ويضلون مثل بعض الفتاوى التي لا تصح واختلط الغث مع السمين، لماذا ظهرت هذه القضية، ومن المسؤول عن انتشارها، وكيف للعلماء أن يتصدوا لهذه القضية؟ أرجو أن يكون هناك نظام صارم وعقوبات شديدة تحد من تجاوز الآخرين للشرع والنظام والتطاول على الآخرين، وأن تكون هناك عقوبات رادعة، حتى يقف كل عند حده. هذه الفضائيات يجب ألا يظهر في برامج إفتائها إلا من هو من أهل العلم والفقه، أما أن يأتي شخص من الدعاة والوعاظ ثم يفتي الناس ويأتي بفتاوى بعضها مخالف للنصوص الصريحة الصحيحة فهذه بلية، لكن أيضا لا تحجر الفتوى على أشخاص معينين، بل كل من كان يتصف بصفة المفتي القادر على إصدار الفتوى الصحيحة يجب أن يسمح له ولا يجوز منعه أبدا؛ لأن الناس في حاجة إلى الأعداد الكبيرة من المفتين لأن الفتاوى التي ترد إلى الجهات الإفتائية تقدر بالآلاف وربما بمئات الألوف. لا يمكن أبدا أن تسد حاجة الناس للإفتاء بالمفتين الرسميين، بل لا بد أن يتصدى لها كل من له علم وفقه حتى تسد حاجة الناس. إن الذين يدعون إلى حصر الفتوى في الجهة الرسمية يريدون منع العلم وإبعاد الناس عن العلم الصحيح وعن التفقه في الدين وعن معرفة الحلال والحرام؛ لأن هذه الجهة لا تستطيع أن تلبي حاجة الناس أبدا. أرجع وأقول إن الفتوى التي تحدثت عنها هي في الأفعال المتعلقة بالأفراد من المسلمين مثل الصيام والصلاة والنكاح والطلاق، أما الفتوى المتعلقة بالعمل العام مثل فتوى الجهاد والمقاطعة فهذه موكولة إلى ولي الأمر؛ لأنه هو الذي يقرر ما يفعله في حق العموم، لذلك لا يجوز أن يتدخل فيها كل أحد، بل هو يستشير من يثق به من أهل العلم ويأخذ بالرأي الذي يراه. الخطاب الديني • البعض يقول إن الخطاب الوحيد الذي سيطر على البلد هو خطاب متشدد يدعو إلى سد الذرائع فقط وتحريم الحلال، هل ما زال هذا الخطاب موجودا؟ لا تزال له بقايا، والفكر الانغلاقي المتطرف التكفيري لا يزال موجودا، ونحتاج إلى وقفة قوية لنشر الوعي والتوضيح التام للعالم كله عن سماحة الإسلام ويسره ويسر شريعته، واحترام الآراء، والاعتذار لمن خالف غيره في مسألة فقهية له دليله وفهمه الصحيح، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا هو «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ليعتذر لهم في اختلافهم واجتهاداتهم، ويجب أن نحذو حذوه وحذو العلماء السابقين في احترام العلماء والبعد عن الغلو والتطرف الذي قادنا إلى التكفير ثم التفجير والإرهاب المحرم. • نتحدث عن قضية سد الذرائع والتوسع فيها التي يأخذها الناس حجة على العلماء، هل أصبح سد الذرائع حجة على العلماء اليوم؟ المشكلة أن هناك من لا يفهم معنى سد الذرائع، ويصف برأيه المجرد عملا من الأعمال بأنه ذريعة للمحرم فيحرمه دون أن يكون هذا العمل ذريعة يقينية إلى المحرم، والشرع لم يحرم أي أمر لكونه ذريعة إلا إذا تحقق أنه ذريعة فعلا. التغييرات القضائية • كنتم في السابق في سلك القضاء والآن بعيدون عنه، ما رأيكم في التغييرات الأخيرة التي شهدها هذا المرفق المهم، وهل تجدونها إيجابية، أم أنه ما زالت هناك خطوات ناقصة في هذا المجال، لاسيما مع أهمية القضاء؟ الأنظمة القضائية الموجودة في المملكة والتي استحدثت أخيرا من أحسن الأنظمة العالمية، فنظام القضاء، نظام المرافعات، نظام الإجراءات الجزائية، نظام التنفيذ، نظام القضاء العام، نظام القضاء الإداري، والتشكيلات القضائية الجديدة، كلها تدعو إلى الفخر والاعتزاز بما حققه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله (رعاه الله ووفقه) لهذه النتائج والثمار التي تثلج الصدور، لكن من المؤسف أن الآلية التي وضعت واشترط فيها المدة الزمنية لم نجد أنها روعيت أبدا، والتأخر في تطبيق النظام القضائي واضح ، وما نصت عليه آلية التنفيذ لم يعمل به كما هو مطلوب، ولا أحمل المسؤولية شخصا بعينه ولا جهة بعينها، وليس من حقي ذلك، لست على يقين ممن تقع عليه المسؤولية عن تأخير تطبيق هذه الآلية وتطبيق الأنظمة التي صدرت، لذلك لا بد من التحرك السريع للاستفادة من هذه الأنظمة التي تحقق العدالة وتسهل سرعة إنجاز القضايا وإيصال الحقوق إلى أهلها. هيئة كبار العلماء • دائما ما نسمع أن لك موقفا من هيئة كبار العلماء، هل هذا صحيح؟ ليس هذا بصحيح، ولكن منهم من تعرض لي وشتمني في وسائل الإعلام وفي بعض الخطب وهم من الهيئة، لأجل فتاوى أصدرتها مبنية على فتاوى من أئمة وعلماء سابقين. لا بد أن أرد على من تعرض لي في هذه الفتاوى بالشتم بالرد المناسب، مع التزامي بالأدب وعدم مجاراته في ألفاظه وأسلوبه، أما بالنسبة للهيئة عموما فأنا أنتقد التقصير في عدم مجاراتها ومواكبة بياناتها وقراراتها للنوازل والأحداث. عندما كنت أحذر مما يسمى بالجهاد في العراق وأنه لا يعتبر جهادا صحيحا وسيترتب عليه الضرر الكبير على العراقيين والمسلمين عموما، كانت هناك اعتراضات كبيرة ولم يصدر من الهيئة أي تعليق وبعد عدة سنوات نجد أن البارزين في الهيئة أصدروا فتاوى بعدم جواز الذهاب إلى العراق وأنه ليس جهادا حقيقيا، بعد أن وقعت الفأس في الرأس وبعد أن ذهب عدد من الشباب المغرر بهم إلى العراق واستبيحت دماؤهم وحصل ما حصل من أضرار كبيرة على هؤلاء وعلى أهل العراق، ورجع الذين أفتوا أو أكثر من أفتوا بالجواز ومشروعية الجهاد عن تلك الفتاوى ورجعوا إلى ما كنت أقوله. عتبي على الهيئة التي لم يصدر منها بيان شاف في ذلك الوقت، وكذلك بالنسبة لتجريم تمويل الإرهاب منذ متى ونحن نعاني من الإرهاب؟، منذ سنوات، ومع هذا لم تصدر فتوى في تحريم وتجريم تمويل الإرهاب إلا بعد مضي سنوات، هذه الفتوى متأخرة. انتقادي للهيئة في مثل التأخر في إصدار البيانات والمسارعة إلى بحث النوازل، وأعتقد أنني لست الوحيد في هذا الانتقاد، ويجب أن يتقبل الجميع النقد الهادف الذي لا يمس الأشخاص وإنما يمس قصور الجهاز. وقد قلت قبل قليل أن انتقاد المسؤول في عمله لا في ذاته وشخصه مع الأدب التام أمر مطلوب؛ لأنه مسؤول عن عمله ويعرض نفسه للعقاب وليس فقط للنقد. • البعض يؤكد أن في الهيئة تنوعا فقهيا، هل ترى ذلك وهل حقق التشكيل الجديد للهيئة هذا التنوع؟ الهيئة ليست ملزمة بألا تفتي إلا بمذهب معين، ولهذا أصدرت منذ سنوات قرارا في الشرط الجزائي خالفوا فيه الأئمة الأربعة واستندوا إلى آثار وقواعد عامة ويشكرون على هذا الاجتهاد، وهذا يدل على أنهم ليسوا مقيدين بمذهب معين، بل ما كان موافقا للكتاب والسنة والقواعد العامة فهو الذي يفتى به وإن خالف المذهب السائد.