فلسطين ،التي لم تكن تقبل القسمة على اثنين ، أمست تقبلها على ثلاثة ، والخشية على أكثر . يبدو أن المعادلات الحسابية متغيرة لا ثابتة في اللوغاريتمات الفلسطينية بأسّها وأساسها .فالتقسيم المشؤوم الممثَل بالرقم 181 الصادر عن الأممالمتحدة في 29 نوفمبر 1947 ، كرر شؤمه بعد مرور ستة عقود ، ليزيد التعقيد عقدة . ما تبقى من فلسطين التاريخية ، وهو أقل أصلاً من مساحة التقسيم المفترضة ، يصدر بحقه قرار تقسيم ،لكن ليس أممياً ، إنما بفعل مصالح فئوية وتدخلات عربية وأعجمية ، آلت بفلسطين الصغرى إلى "فلسطينات صغريات" كل منها محكومة بحكومة بزي "أيديولوجي" معين . هذا التقسيم الطارىء ،كما لو كان إرثاً يتقاسمه الأبناء من بعد اقتتال على ما تركه الأب لهم ، أساء أيما إساءة للنضال الفلسطيني على مدى عقوده بكل ما حمله من تغيرات طارئة وغير طارئة . الفرق في هذا الإرث ، أن فلسطين لم يتركها أب لإبنائه كاملة ، بل ربْع هذا الإرث تقريبا ً ، على أمل الحفاظ عليه من الضياع وتغيير الهوية والكيان ، لكن الربع ضاع في فوضى صراعات النفوذ وما يلتصق بها من تجاذبات وشراء بالمال وإغراء بالسلطة والمناصب وإنْ بطرق غير شرعية ، وبتدخلات غير مشروعة البتة . صحيح أن الحديث عن حقيقة ما آلت إليه فلسطين الصغرى من انقسام قطّع عرى الأخوة وفصم وشائج الوحدة ، سيزيد من طينة الجدل بلة ، باعتبار أنّ كل امرىء سيجادل وفقاً لانتمائه العقائدي أو حتى البراغماتي ، وحينها سيدعي كل فلسطيني أنه المحق . لذلك ، فلتكن ذكرى التقسيم الأممي مناسبة يتحلل فيها الفلسطيني من إجرام الإنقسام ، ويعود إلى زيه الوطني الأصلي ، ليس بمفهوم القماش ، إنما بالمفهوم النضالي الوطني والسلوكي وحتى الخطابي ، لعل فلسطين تسترد بعضاً من صورة نضالها التي تشوهت بالألوان الداكنة الطارئة عليها فجعلتها مجرد لوحة مجردة من كل التفاصيل التعبيرية والواقعية والانطباعية وحتى الرومانسية . في حساب المتغيِّر ، من المحتمل أن هناك من لم يتذكر أن التاسع والعشرين من نوفمبر هو ذكرى تقسيم فلسطين ، نظراً لما طرأ على الإنسان الفلسطيني ،وحتى العربي ، من أحداث جعلت كتابه الذهني غاصاً بالذكريات ، لدرجة قد تجعله يعتقد أن اليوم العادي الآمن ، والمطْمئن الساكن ، هو الذكرى باعتبار أنه مر بلا تراجيديا ، أو حتى من دون كوميديا سوداء . لكن في حساب الثابت ، فعلى الفلسطيني أن يتذكر أن فلسطين الكبرى التي قُسِّمت ، بين اليهود والفلسطينيين، بمعول حكم القوي على الضعيف ، لا يمكن أن يُقسّم قِسْمها من جديد، هذه المرة بين الفلسطينيين والفلسطينيين ، حتى صار الفلسطيني غيره منذ التقسيم الجديد.