المواطن السوري يدرك تركيبة وطبيعة الجيش السوري، ومعروف لديه أن عقيدته مختلفة تماما عن عقيدة معظم جيوش العالم، ومنها الجيش المصري والجيش التونسي عشية القمة الاقتصادية الاجتماعية والتنموية الثانية، التي عقدت في شرم الشيخ في الثامن عشر من يناير لهذا العام، كنت على موعد للقاء الرئيس المصري السابق حسني مبارك. لم يكن لقائي الأول به لكنه كان الأخير، حيث اندلعت الثورة المصرية بعد ذلك بسبعة أيام. تناول اللقاء، الذي لم يسجل إلا في ذاكرتي، مواضيع مختلفة، الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة، تحرير الاقتصاد في مصر، محاولة اغتياله في أديس أبابا، السودان والرئيس البشير، أمريكا وعلاقاتها مع مصر، العشوائيات في مصر، جمال وعلاء، الرئيس بشار الأسد ورامي مخلوف، حزب الله وإسرائيل. لكن الموضوع الأهم في تلك الجلسة كان الموضوع التونسي، وهروب الرئيس زين العابدين بن علي. أذكر أنني علقت بسلبية على الخطاب الأول للرئيس التونسي السابق الذي توجه به للشعب التونسي، وقلت للرئيس مبارك: إن بن علي لم يكن موفقا في خطابه الأول، حيث خرج على شعبه بتهديد ووعيد، وبأنه سيضرب بيد من حديد. ليس هكذا تخاطب الشعوب إذا نزلت للشارع. فرد الرئيس مبارك قائلا: لو كنا نحن في هذه الأزمة لتصرفنا بشكل مختلف. لو كنت أنا، لخرجت أكثر هدوءا، ولأجريت بعض التعديلات الوزارية، أو حتى قمت بتغيير الحكومة وغيرها من الإجراءات التي تساهم في إرضاء الناس وتهدئة الشارع. فقلت له: يعني يا سيادة الرئيس كما تقولون باللهجة المصرية "من الكتاب". فرد علي مبتسما: بالضبط من الكتاب، "وأهو انتي عارفة كل حاجه". وفي تلك اللحظة، دخل أحد وزرائه قائلا: "صاروا تلاتة يا ريس"، في إشارة إلى مصري ثالث قام بحرق نفسه أمام مجلس الشعب في القاهرة. الكتاب بالمناسبة في هذا السياق، هو الكاتالوج الذي يتبع خطوة خطوة. لكن هذا الكتاب الذي اتبعه ويتبعه الزعماء العرب، لا يوجد في هوامشه ما يقول إن تطبيقه ينجح فقط في حال لم يكن هناك عزيمة وإصرار لدى الشعوب للوصول إلى ما تخرج من أجله. مؤلفه نسي أن هناك جيوشا وطنية تتمتع بالقيم والشرف وتقف ضد القتل، ونسي أن هناك ضغوطا دولية قد يتعرض لها النظام فتساعد على إسقاطه، ونسي أن هناك حربا قد تشن على نظام ما، مثلما يحدث في ليبيا، فتسقطه عاجلا أم آجلا. ما حدث في مصر وتونس هو وقوف الجيش مع المطالبين بإسقاط النظام. حتى في اليمن، كان انشقاق اللواء علي محسن الأحمر علامة فارقة. في ليبيا أيضا، كان انشقاق اللواء عبدالفتاح يونس رحمه الله علامة فارقة أيضا. المأساة هنا في سوريا، أكثر ما يحزن هو سماع هتاف "الجيش والشعب إيد واحدة" أو "الجيش يحمي الثورة"، وهذا اقتباس عن الهتافات المصرية التي سمعناها عندما نزلت دبابات الجيش للشوارع، وأحاطت بميدان التحرير دون المساس بالمتظاهرين. يبدو أن المواطن السوري في ذهنه لا تزال صورة أولئك الجنود من الجيش التونسي الذين كانوا يتلقون الورود من المواطنين، ويسلمون عليهم بحرارة في سويعات بعد قرار إسقاط نظام الرئيس بن علي. كما أن صورة المواطن المصري الذي كان يكتب على دبابة جيش مصرية "يسقط مبارك" بوجود جنود يرفعون الأطفال ويلتقطون صورا معهم على ظهر نفس الدبابة، هي ربما صورة في ذهن المتظاهر السوري أيضا. المواطن السوري ليس لديه عمى ألوان. هو يدرك إدراكا كاملا تركيبة وطبيعة الجيش السوري، ومعروف لديه أن عقيدته مختلفة تماما عن عقيدة معظم جيوش العالم، ومنها الجيش المصري والجيش التونسي، فهو وللأسف جيش عائلي طائفي مستعد للمزيد من القتل والتنكيل والضرب بيد من حديد لحماية النظام، ليس كتلك الجيوش التي هي لحماية الوطن. لكن المواطن السوري ما زال يهتف استعطافا، لعل وعسى. فهو يعلم أنه عندما يقرر الخروج إلى الشارع، فهو يقرر أن يكون مشروع جثة، ويودع أهله لأنه قد لا يعود. ما حصل في حماة ودير الزور خير دليل على ذلك؛ دبابات الجيش السوري تقصف البيوت الآمنة وقت الإفطار في رمضان الكريم، وتحاصر وتضرب المستشفيات، وتغلق، بمساعدة الشبيحة وقوات الأمن، المساجد، وتمنع أداء صلاة التراويح، لكن هذا كله يبدو هامشيا مقارنة مع ما فعله الأسد الأب في الثمانينات. الوضع اليوم مختلف، كانت آنذاك حماة وحدها، الآن حماة وحمص ودرعا ودمشق وكل المناطق السورية دون استثناء. في أسوأ الظروف، حتى لو بقي النظام، لن تعود سوريا كما كانت، قبل أن تزكم رائحة الموت الأنوف، في ظل ضعف موقف العرب باستثناء موقف دول الخليج وبيان الجامعة العربية على الرغم من أن المطلوب أكثر وخجل المجتمع الدولي، وتواطؤ الجيش العربي السوري مع النظام، ببساطة لأن الشعب قرر أن يكون هو والموت "إيد واحدة" من أجل نيل حريته، ورفع الظلم، وتحقيق العدل والمساواة. أليس هو القائل (الموت ولا المذلة)؟