شاركت المملكة العربية السعودية 25 دولة في بعثتين علميتين لاستكشاف القارة القطبية الجنوبية المعروفة باسم (أنتاركتيكا)، بدأت الأولى نهاية 2013م والثانية مطلع العام الحالي، مثلها خلالهما أستاذ الجيولوجيا والجيوفيزياء في جامعة الملك سعود الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله بن لعبون الذي انضم إلى 143 باحثًا انقسموا على هاتين البعثتين ليجروا العديد من الأبحاث المتعلقة بطبيعة القارة المتجمدة وعلاقة بعض التحولات الطبيعية فيها بجزيرة العرب. وانطلقت الرحلة الأولى نهاية العام الماضي متجهة إلى شمال غرب القارة المتجمدة من جهة أمريكاالجنوبية على متن باخرة الأبحاث الروسية "أكاديميك آيوف" على متنها 96 باحثًا واستمرت 25 يومًا، تم خلالها إجراء دراسات جيولوجية وتكتونية ميدانية لبحر سكوشيا وما حوله من جزر، وشبه القارة القطبية، ومقارنة ذلك بجيولوجية جزيرة العرب وابتعاد الصفيحة العربية عن الصفيحة الأفريقية على امتداد البحر الأحمر وانفتاحه وتوسعه، وتبين منها تزامن وتشابه بين طبيعة انفتاح بحر سكوشيا وانفتاح البحر الأحمر.
وبدأت الرحلة الثانية في 13/3/1435ه على متن السفينة العلمية الروسية "أكاديميك شوكالسكي" متجهة إلى جنوب شرق القارة القطبية، واستمرت 30 يومًا بمشاركة 47 باحثاً، تخللها العديد من المصاعب بعد الإبحار من ميناء (Invercargill) في أقصى جنوب نيوزيلندا، خاصة عندما دخلت السفينة البحار المفتوحة للمحيط الجنوبي، إذ تعرضت الباخرة للأعاصير والأمواج العاتية التي تسبّبت في حدوث إصابات مختلفة لبعض أعضاء الفريق أثناء الذهاب والعودة من القارة القطبية.
وأرجع الدكتور ابن لعبون، صاحب اكتشاف وجود صخور جليدية تابعة لعصر البليستوسين (العصر الجليدي) في منطقة "مدين" شمال غرب المملكة، أسباب مشاركته في الرحلتين إلى دراسة جيولوجية القارة الجنوبية المتجمدة التي تشبه جيولوجية جزيرة العرب، حيث عثر على دلائل لصخور ترسبت في بيئات جليدية في منطقة "مدين" شرق خليج العقبة، ما تطلب الأمر السعي لدراسة البيئات الجليدية الحالية للتعرف على مدى تأثير الجليد على الصخور تشكيلاً ونقلاً وترسيبًا.
وأوضح في حديث لوكالة الأنباء السعودية أن البعثة الثانية قامت بدراسة جيولوجية الجانب الجنوبي الشرقي للقارة على سواحل بحر روس، خاصة النشاط البركاني، ومقارنة ذلك بما حدث في جزيرة العرب، وتبين من الدراسة وجود تزامن بين الثورات البركانية وتشابه في طبيعتها بين القارة القطبية وجزيرة العرب.
وأشار إلى أن هذه المشاركة جزء لا يتجزأ من مهمات الجامعات والمراكز البحثية بشكل عام وفي المملكة بشكل خاص، بالإضافة إلى التعرف على تقنيات البحث العلمي الحديثة والإسهام عالميًا في تقدمها، مبينًا أنه تم تسليط الضوء على تسجيل خمس فترات جليدية في السجل الجيولوجي لطبقات جزيرة العرب، اثنتان منها في دهر الحياة الخافية (Proterozoic)، والأخرى في حقب الحياة القديمة (Paleozoic) (في أواخر العصر الأوردوفيشي وأوائل العصر السيلوري) و(أواخر العصر الكربوني وأوائل العصر البرمي)، وأخيرًا جليد العصر الجليدي في عصر البلايستوسين.
ويوجد في القارة القطبية العديد من محطات الأبحاث العلمية، منها الدائمة المأهولة، ومنها المؤقتة الصيفية، ومنها الذاتية العمل، تشرف عليها: الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وفرنسا، والهند، وجنوب أفريقيا، ونيوزيلندا، وأستراليا، والأرجنتين، وتشيلي، وأوكرانيا، والكوريتين، وأورغواي، واليابان، وبولندا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرازيل.
وفي ذات السياق، قال الدكتور عبدالعزيز بن لعبون إن البعثة العلمية زارت عددًا من هذه المحطات أثناء الرحلة الثانية، وتم التعرف على النشاط العلمي لها وما تقوم بجمعه من معلومات جيولوجية، وجيوفيزيائية، ومناخية، وفلكية، وحيوية، ومناخية، وبحرية، وجليدية، وفلكية، وغيرها، للاستفادة منها في دراسة طبيعة القارة المتجمدة، ومن تلك المحطات التي زارها الفريق: مكواري الأسترالية، ومكمردو الأمريكية، وسكوت النيوزيلندية.
وأفاد أن محطة "مكواري" هي محطة أسترالية تأسست سنة 1948م في جزيرة مكواري الأسترالية التي تقع بين تسمانيا والقارة القطبية، ومخصصة لمختلف الأبحاث العلمية الحيوية والبيئية والمناخية والبحرية، ويصل عدد العاملين فيها ما بين 15 إلى 20 شخصًا في الشتاء، ويزداد العدد إلى 50 شخصًا في الصيف.
أما محطة مكمردو الأمريكية التي تأسست سنة 1957م، فقد بين الدكتور بن لعبون أنها أكبر محطة علمية في قارة أنتاركتيكا في جزيرة روس، وتتكون من أكثر من 100 مبنى تنتشر في مساحة قدرها 4 كيلومترات مربعة، وتضم مختلف المرافق العلمية، والسكنية، والخدمات، وهي مدينة صغيرة تأوي 250 شخصًا في فصل الشتاء، ويزداد العدد إلى 1100 شخص في فصل الصيف، في حين أن محطة سكوت النيوزيلندية، مخصصة للأبحاث العلمية وتقع بالقرب من محطة مكمردو الأمريكية.
يذكر أن مساحة القارة القطبية الجنوبية تبلغ 14 مليون كيلومتر مربع مرتفعة عن سطح البحر بنحو 2300 متر، وتمثل 9% من مساحة قارات الأرض، أي نحو ضعف مساحة قارة أستراليا، وسبعة أضعاف مساحة المملكة العربية السعودية، وهي أكثر قارات الأرض عزلة، وتبعد 950 كيلومتراً عن قارة أمريكاالجنوبية، و2300 كيلومتر عن تسمانيا (أستراليا)، و2200 كيلومتر عن نيوزيلندا، و3600 كيلومتر عن أفريقيا.
ويوصف القطب الجنوبي بأنه أكبر صحراء قاحلة في الكرة الأرضية، والصحراء فيها جليد على امتداد البصر، وبحارها شاسعة وأمواجها عاتية، ونهارها طويل، وأيام لا تغيب الشمس عنها، فضلاً عن أن الحياة الفطرية غريبة في أشكالها وسلوكها، وتجثم على أرض القارة آلاف الأمتار من كتل الجليد المتحجر، كما تطفو جبال من الجليد فوق بحارها، وتوجد فيها براكين تخترق آلاف الأمتار من طبقات الجليد لتنفث دخانها ورمادها ومقذوفاتها فوق كتل الجليد ليغطيها جليد جديد بقدرة الله عزو وجل، وبراكين أخرى وسط البحار.