"شهادة ميلاد كُتبت بأيدٍ مصرية واسم سعودي، وصك إثبات بنوة، وصك آخر ينفيه"، ثلاث أوراق تحكمت في حياة فتاة سعودية لأكثر من ثلاثين عاماً، قضت منها أكثر من ثلاثة عشر عاماً في صراع مع عائلتها وبين أروقة الجهات الحكومية في محاولة لإثبات نسبها وجنسيتها. ف"أميرة" بموجب شهادة الميلاد وصك البنوة الملغى، عانت على مدار أكثر من ثلاثة عشر عاماً من إضطهاد وعنف أسري من قبل إخوتها الذين لم تشفع لها عندهم قرابة الدم من تعذيبها وتوجيه التهم لها بالتزوير والكذب. وتروي "أميرة" كيف بدأت حكايتها قبل ثلاثين عاماً عندما تزوج سعودي من سيدة مصرية في مصر لمدة شهرين، ثم تركها وعاد إلى بلده دون أن يترك خلفه ما يدل على مكانه. ولكن معاناة السيدة المصرية تجلت عندما بدأت تتحرك "أميرة" في أحشائها متسائلة عن مصير الطفلة التي لن تعرف والدها، ولكن الحظ أسعفها بوجود عقد زواجها من "السعودي"، فتمكنت من منح "أميرة" أول ورقة رسمية في حياتها "شهادة الميلاد". شهادة الميلاد التي حملت اسمها ووضع في خانة الأب اسم لرجل لم تعرفه "أميرة" ولم تره طوال سنين عمرها، كانت تمثل لها مشكلة آخر، فعند وصلوها لسن الالتحاق بالمدرسة كان حال والدتها وجدها المتواضع لا تسمح لها بدفع مصاريف الدراسة في الوقت الذي تعتبر فيه أجنبية في مصر، فما كان من جدها إلا أن استخرج لها أوراقاً باسمه لتكمل تعليمها. استمرت حكاية "أميرة" فبعد فترة وجيزة تزوجت والدتها مرة ثانية من رجل سعودي وسافرت معه إلى السعودية، فيما أكملت هي حياتها ودراستها عند جدها، في الوقت الذي كانت فيها والدتها تتقصى عن مكان وجود والدها لعلها تحصل على حقوق "أميرة". وتقول "أميرة": "تمكنت أمي من الوصول إلى والدي، ولكنه كان قد توفي، في حينها عرفتْ أنه له ثلاثة أبناء، توجهتْ إليهم وأخبرتهم بقصة أختهم التي لا تحمل إثباتاً سوى شهادة ميلاد، فما كان منهم إلا أن طردوها نافين أن يكون لهم أخت أو أن أبيهم تزوج". وتروي"أميرة" كيف أن والدتها لم تيأس فتوجهت للقضاء، واستطاعت بموجب عقد الزواج وشهادة ميلادها وشهادة أحد إخوانها الذي شهد في المحكمة أن والده أقر بزواجه من "مصرية" قبيل وفاته في أن تحصل لها على صك بإثبات بنوتها ونسبها. فرحتها بالحصول على الصك لم تكتمل، فكان عليها الدخول لأول مرة لبلدها "السعودية" لتستكمل إجراءاتها والحصول على حقوقها، أرسلت لها والدتها الصك فتمكنت من الحصول من خلال السفارة السعودية في مصر على جواز سفر يستخدم لمرة واحدة . وقالت: "جئت للسعودية وجلست في البداية عند والدتي حتى أتمكن من استخراج أوراقي الرسمية وكذلك بطاقة عائلة، توجهت للخدمة المدنية ولكنهم أخبروني أنني لن أتمكن من إستكمال أوراقي إلا بحضور إخوتي الثلاثة والذين وردت أسماؤهم في الصك والتعريف بي". وفي الوقت الذي حاول أخوها الذي اعترف بها منذ البداية مساعدتها وذهب للأحوال المدنية، إلا أنهم كانوا مصرين على حضور الأشقاء الثلاثة. تقدم لها أخوها الآخر- تحتفظ "سبق" باسمه- بعرض لم تستطع رفضه وهو الإقامة معه في مقابل أن يستكمل إجراءاتها. وتؤكد "أميرة" أنها وافقت على طلبه وانتقلت للعيش معه، ولكن ما وجهاته لم يكن في الحسبان، قائلة: "عشت سنتين في ذل وعنف لا يمكن تخيله، كان يضربني يومياً ب "الخيزرانة"، ويجبرني على الخروج للبر ظهراً، وكنت أعمل في بيته كالخادمة، بل أجبرني على تنظيف حوش الغنم الخاص به". وبعد عامين قررت "أميرة" أن تواجه أخاها فطالبته بأوراقها، ليخبرها بأنه لن يستكمل أوراقها مهما فعلت، مضيفة "طلبت منه أن يعيدني لمصر، ولكنه رفض أيضاً قائلاً إنه ليس لديهم فتيات يسافرن لخارج البلد". ولكن حيل أخيها، بحسب "أميرة"، لم تنتهِ فبعد عامين عاشتهما في عذاب أخبرها أن هناك وسيلة للتخلص من كل ذلك، بأن يأخذها لمقر الشرطة وتعترف هناك بأنها ليست أختهم بل مصرية الأصل، فوافقت على أمل أن تعود لأحضان جدها المصري. وتكمل: "أخذني إلى مقر الشرطة وهناك بإيعاز منه أخبرتهم أنني مصرية وأني أريد الرحيل. وكان قد أخبرني أن ترحيلي سيستغرق أسبوعاً واحداً فقط، لكن ما حصل كان نقيض ذلك تماماً، فمن مقر الشرطة تم إيداعي في مكتب التسول لأكثر من شهر بسبب إجازة رمضان وعيد الفطر". وأضافت: "أعادوني مرة أخرى للتحقيق بوجود أخي الذي أكد مرة أخرى أن إجراءات ترحيلي أصبحت وشيكة وما عليَّ سوى أن أقول إني كاذبة، كنت آنذاك في التاسعة عشرة من عمري، صدقته، وتم إعادتي مرة أخرى للسجن العام وجلست هناك لأكثر من خمسة أشهر". وتصف " أميرة" كيف أن علاقات أخيها القوية جعلت من حياتها وحياة والدتها جحيماً، فبعد خمسة أشهر قضتها في السجن فوجئت بهم يستدعونها لمكتب مسؤول في الشرطة بحضور والدتها التي قال لها المسئول "عليك توقيع الورقة وإلا لن تخرجي من هنا". وقالت "كان زوج أمي متوفى حديثاً، وقد تركت أطفالها في الدمام وجاءت للأحساء، وبعد أن أصبح الوقت مساءً وقعت على الورقة وأخلوا سبيلها، الورقة اعترفت فيها أني لست ابنتها وأني أختها". سنة وثمانية أشهر أخرى كان على "أميرة" أن تتحمل فيها آلام السجن لذنب لم ترتكتبه، وما زاد من قسوة الأمر عليها خبر وفاة جدها في مصر، الخبر الذي جعلها تقرر أن تبوح للقاضي الذي كان من المفترض أن يحكم في قضيتها بقصتها كاملة وبإجبار أخيها لها على الكذب". وتضيف: "سألني القاضي عن ما حدث وصك البنوة وشهادة الميلاد، وبحضور أخوتي حكم الشيخ بأنني أختهم، رغم اعتراض أخي الذي عذبني لأكثر من عامين"، مشيرة إلى أنها قضت شهراً آخر في السجن قبل أن يأتي أخوها ويخرجها لتعود لوالدتها في الدمام. ولم تكن تعلم أنها على وشك أن تفقد من اعترف بها منذ البداية وفتح لها باب بيته على أمل أن تستخرج أوراقها الثبوتية، فبعد فترة توفي أخوها، وتلقت هي إتصالاً من مسئول بالشرطة طلب منها الحضور لإستكمال بعض الإجراءات، ولكن الحقيقة أن القيد والسجن كانا بانتظارها مرة أخرى. وتوضح أنها فوجئت بأمر ترحيل صادر ضدها بعد سنة ونصف سنة مضت منذ خروجها من السجن لأول مرة، مضيفة "جلست في السجن ثمانية أشهر أخرى، وبعدها رحت للقاضي الذي سألني عن الصك الأصلي والذي فيه إثبات بنوة لوالدي وأخبرته أنه بحوزة والدتي وحلفت اليمين على ذلك، فقد كان بحوزة والدتي التي لم أستطع التواصل معها طوال فترة وجودي في السجن". وقالت "نقلوني لسجن الرياض وجلست هناك شهرين، ومن ثم تم نقلي للترحيل في جدة وبعدها تم نقلي على متن عبارة إلى مصر وجلست في الميناء المصري لمدة أربعة أيام كانت الجهات المصرية رافضة إدخالي لعدم حملي لأوراق ثبوتية مصرية، حتى حضر خالي وأخذني إلى بيته بعد أن كتب تعهداً على نفسه". وبعد فترة من ترحيلها لمصر حضرت أمها وتوجهت معها للسفارة مرة ثانية، وكان معها الصك في محاولة منها لإعادة ابنتها لأحضانها والحصول على حقها في إثبات هويتيها، وبعد سنة وأربعة أشهر منحتها السفارة للمرة الثانية أيضاً جواز سفر لمرة واحدة دخلت بموجبه المملكة للمرة الثانية . وتشير "أميرة" إلى أنها توجهت للدمام وجلست عند والدتها وحاولت مرة أخرى مع إخوتها وأكدت لهم أنها لا تريد مالاً ولكن كل ما تسعى له أن يكون لها أوراق رسمية وجنسية وإثبات، مضيفة "وبعد عامين من جلوسي عند أمي جاءني شاب سعودي وخطبني وأعلمته على كافة ما مررت به وأخبرني أنه على استعداد للوقوف معي". وقالت "وتم زواجي منه بعد أن أرسلت لخالي في مصر توكيلاً لتزويجي بموجب شهادة ميلادي وصك إثبات البنوة".. ولكن مسلسل معانتها لم يتوقف بعد أن أصبح لها عائلة وزوج، فإتصال ورد لزوجها قبل عام زلزل أركان بيتهم وجعلها تعيش في خوف وقلق دائم وشبح السجن يطاردها في أحلامها، اتصال من الشرطة يطالبه بالحضور، وسؤال عن صلته ب "أميرة". صاعقة جديدة نزلت على أميرة وزوجها، فصك بنوتها الشرعي والصادر من محكمة تم إلغاؤه بموجب صك آخر لا تعلم هي عنه شيئاً ولا تدري كيف صدر دون علمها، بل والأدهى أنه صدر عام 1425ه. حاولت أن تعرف سبب إلغاء الصك وتوجهت لرئيس المحكمة الشرعية في الأحساء، قائلة "وتساءلنا عن سبب إلغاء الصك، وأخبرنا أنهم تلقوا خطاباً من مجلس القضاء الأعلى "بتهميش" الصك الأول". وأوضحت أنها طلبت صورة من الصك الذي ألغى الصك الأول، فأخبرها رئيس المحكمة أنه ليس موجوداً لديهم، وتنتظر الآن "أميرة" مصيرها بعد أن أصبحت تواجه تهمة التزوير في أوراق رسمية دخلت بناءً عليها إلى المملكة، مطالبة بإجراء فحص الحمض النووي DNA لإثبات نسبها ولتتخلص من معانتها وتستطيع أن تكمل حياتها. يشار إلى أن "سبق" تحتفظ بصورة عن كافة الأوراق الرسمية التي حصلت عليها "أميرة".