نظم مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، مساء أمس، أولى فعاليات برنامجه "المحاضرات العلمية"، بمحاضرة تحت عنوان "العربية بين الاستقرار والتطور" في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، تناول فيها الباحث التونسي الدكتور عبدالقادر المهيري عدداً من المحاور: اللغة واستعمالها، واللغة والتطور، وعوامل استقرار اللغة العربية، والعوامل التي تهدد حياة اللغة، والمعجم التاريخي للغة العربية. حيث أشار المهيري أثناء حديثه إلى أن اللغة تتحجّر، بل تموت إذا لم تستعمل، وإذا تخلى عنها أهلها لصالح لغات أخرى أو لهجات متولّدة عنها، وعلى العكس، تتطوّر إذا استعملت، فهذان قانونان ينطبقان على جميع اللغات. فلقد ماتت لغات قديمة حلّت محلّها اللهجات المتولّدة، مثل اللغة اللاتينية التي لم تعد تستعمل إلا في بعض الكنائس القليلة لقراءة نصوص مقدّسة لا يفهمها إلاّ الراسخون في علم اللاهوت، إلا أن اللغة العربية، بقيت لغة حية لم تمت، بفضل عوامل عديدة ساهمت في بقائها حيّة تستعمل في عديد المجالات، كما أنها برهنت -على حد قوله- على أن كلّ لغة لا يمكن أن تكون عقيمة في حدّ ذاتها، وإنّما المسؤولون عن العقم، إن اعتراها، هم أهلها الذين زهدوا فيها. وذكر المهيري في محاضرته التي أدارها د محمد الهدلق أن أوّل هذه العوامل التي ضمنت استمرار اللغة العربية هو القرآن الكريم، حيث رأى أن تلاوة القرآن في حدّ ذاتها لها دور مهم يتمثّل في جعل العربية مألوفة لسمع العربي، بالإضافة لكونه مرجعا لغويا مثاليا يستند إليه اللغويين. وتحدث المهيري عن أن من عوامل استمرار اللغة العربية، أنّها ليست لغة الاستعمال اليومي في البيت والشارع والسوق؛ لأنّ لغة التخاطب معرّضة في كلّ حين للتغيير والتحريف طبقا لقانون الاقتصاد في المجهود الذي يقود إلى الاختصار والحذف، وتخفيف ما قد يبدو ثقيلا في النطق. وقال المهيري: إن الأداة حديثة العهد لإحياء اللغة ونشرها، هي الوسائط المكتوبة من صحافة ومجلاّت، خاصّة الوسائط الشفوية، فهي توفر انتشار اللغة وتضمن الألفة في سماعها؛ لذا ينبغي اليوم أن نولي لغة الصحافة ولغة الوسائط بصفة عامة كلّ الاهتمام، لأنّها في نهاية الأمر هي الشاهد الأوّل على حيوية اللغة العربيّة. فيما أشار المهيري إلى أن عددا من العوامل تكون عائقاً لاستعمالنا للغة العربية، تتصل أساسا بالمصطلح وبما نحن في حاجة إليه من مصنّفات ترصد حياة لغتنا في مختلف أرجاء البلاد العربيّة من وصف لاستعمالاتها الحديثة ومعاجم تاريخية وغير تاريخية، ترصدها من مخزونها اللغوي الثري. وفي السياق ذاته أثار المهيري ضرورة وضع معاجم حديثة يتجدّد نشرها بصفة دوريّة، لضمّ ما يجدّ من كلمات جديدة، أو تسجيل ما تكتسبه الكلمات القديمة من معنى شاع فيها وألفه مستعملو اللغة وتبنّاه الكتّاب. وختم المهيري محاضرته بقوله: "نحن بحاجة إلى بحوث علمية تعتمد استعمالنا للعربيّة معجمياً وصرفياً ونحوياً ومؤسسات مختصّة في ذلك ترصد كلّ ما يَجدّ، وتوفّر لنا معاجم دوريّة تمثّل في آن واحد الضامن لصيانة لغتنا، والجامع لما اتّفق على سلامته، والأداة التي تحقّق التفاهم فيما بيننا". من جهة أخرى أشار الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، الدكتور عبدالله الوشمي، إلى أن المحاضرة تأتي ضمن برنامج متكامل في هذا السياق يتضمن إصدارها في كتاب، وعقد شراكة مع جهة علمية لاستضافة المحاضرة، وتنفيذ حلقة نقاشية موسعة مع سعادة الضيف تسبق المحاضرة، حيث ناقش الضيف فيها سيرته البحثية مع بعض المتخصصين والباحثين وطلاب الدراسات العليا وطالباتها في رحاب كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأدارها الدكتور ناصر الغالي، وتحدث فيها الضيف عن نشر المستشرقين لعدد من أهم نصوص التراث النحوي وعنايتهم بالبحث عن مصادره، مشيراً إلى أن اللغة العربية الآن تمر بمرحلة نهوض وتميز يزيد عن مراحل سابقة كانت تعيش فيها. وتطرق المهيري في حديثه في حلقة النقاش، إلى قراءة ثانية للمشهد، وهي البحث في التراث وعدم رفضه مع حرصهم على نقده وإن أشاروا إلى فوائده. كما قدم المهيري قراءة ثالثة للمشهد، وهي القائمة على النظر والتمعن والتفكر والبحث والتمحيص والاعتقاد بأن التراث النحوي، بعضه يكمل الآخر، وأنه كل لا يتجزأ والاستفادة من النظرة المعاصر في البحث والتمحيص. وتتالت المداخلات والتعليقات بعد ذلك، حيث تعرضت لتبسيط تعليم النحو وعلاقته باللسانيات الحديثة وعلاقته بالبلاغة، كما تحدث المهيري عن المعنى وأشار إلى التقدير والتعليل وكيف خدم التراث هذه القضايا وكيف أنها تشكل الجملة مما يعطي التراث بعدا في السبق في مقابل اللسانيات الحديثة. وأكد المهيري على أهمية التسلح اللساني وكيف أنه يقود إلى خدمة التراث ويساعد على تمحيصه واستخراج نفائسه. وأفاد الوشمي أن المركز أعد برنامجا نوعيا بعنوان "برنامج المحاضرات العلمية" لاستضافة كبار الباحثين والأساتذة المتخصصين في اللغة العربية، داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، لإفادة الباحثين والمتخصصين وطلاب الدراسات العليا وطالباتها، حيث يسبق كل محاضرة علمية، حلقة نقاشية موسعة، يستعرض فيها الباحث تجربته البحثية، ويناقش ذلك مع الباحثين وطلاب الدراسات العليا، وكانت محاضرة الأستاذ الدكتور عبدالقادر المهيري باكورة هذا البرنامج.