بعد أكثر من سبعين عاما على بدء التعليم المهني في المملكة لاتزال بلادنا تعاني من إشكالية تنموية متزايدة منذ عقود هي نقص الأيادي الحرفية الوطنية في معظم المجالات، وقد ترتب على ذلك اضطرارنا لفتح باب الاستقدام من الخارج منذ بدء الطفرة النفطية الأولى لسد النقص الكبير من العمالة الحرفية مع ما استتبع ذلك من تبعات أمنية واقتصادية لم تتوقف عند ارتفاع معدلات الجريمة بأنواعها، والإخلال بالتركيبة السكانية، وتنامي أحجام التحويلات المالية للخارج بل تجاوزته إلى التأثير سلبا على بعض المفاهيم والقيم الاجتماعية نتيجة لدخول أنماط غير مألوفة من التقاليد والسلوكيات القادمة مع العمالة الوافدة. ومع كامل التقدير لجهود المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وشراكاتها الاستراتيجية مع قطاع الأعمال والكليات والمعاهد لتوظيف خريجيها الذين يعاني البعض منهم صعوبات في التوظيف لضعف التأهيل، فإن المشهد العام في سوق العمل يشير بوضوح لوجود خلل هيكلي في معادلة التعليم ينبغي تعديله وقد يكون أحد أسبابه الرئيسية هو التراخي الملحوظ من قبل مخططي سياسات التعليم والعمل في التعامل مع المشكلة، وعدم كفاية أو ملاءمة الجهود التي تبذلها وزارة العمل باعتبارها الجهة المشرفة على أداء «المؤسسة» التي يفترض أن تكون أداتنا الوطنية لتوفير احتياجات البلاد من الحرفيين. وللتعامل مع تحدٍ وطني بهذه الأهمية على المستويين الكمي والنوعي أعتقد أنه لا بد من إعادة صياغة شاملة لإستراتيجيتنا التعليمية بحيث تتسق مخرجاتها مع احتياجاتنا عبر التركيز على التوسع في التعليم والتدريب التقني والمهني وذلك بدءا من المرحلة الثانوية التي تتبلور خلالها ميول وتفضيلات الطلاب وعلى نحو يمهد لإيجاد جيل من المهنيين الشباب اللازمين لمتطلبات التنمية الوطنية حيث لايزال الحرفيون السعوديون عملة نادرة سواء في القطاع الحكومي أو لدى القطاع الخاص وكذلك في مدننا الصناعية وشركات المقاولات العملاقة التي نادرا ما تلمح فيها حرفيا من أبناء البلد. ولعل السبب «الظاهري» للنتيجة السابقة هو اتساع وعمق الفجوة بين عدد خريجي ومتدربي برامج التعليم المهني مقارنة بأعداد خريجي التعليم العام والعالي حيث لا يتجاوز عدد متدربي «المؤسسة» التقنيين والمهنيين مع بداية العام الحالي حوالى مائة ألف يتلقون تدريبهم عبر 53 كلية تقنية للبنين والبنات إضافة لنحو 70 معهدا صناعيا ثانويا وذلك مقارنة بحوالى مليون طالب وطالبة يدرسون في المرحلة الثانوية وذلك من أصل نحو 5 ملايين هم عدد طلاب وطالبات التعليم العام في المملكة يدرسون في حوالى 30 ألف مدرسة إضافة لأكثر من مليون طلب وطالبة في الجامعات السعودية الحكومية الخمسة والعشرين. ورغم أن الأرقام السابقة تبين حجم الفجوة إلا أنها لا توضح أسبابها وهذا بدوره يطرح جملة من التساؤلات حول مكمن الخلل وهل هو نتيجة لعدم إدراكنا لعمق المشكلة وأبعادها؟! أم لضعف الترويج لهذا النوع من التدريب؟ أم لمحدودية عدد وانتشار الكليات والمعاهد؟ أم لعزوف الشباب عن العمل الحرفي؟ أو لانعدام الحوافز المقدمة إليهم أو ضآلتها؟ أم للنظرة الاجتماعية التي لا تحترم ثقافة العمل اليدوي؟ أو لقلة المعروض من الوظائف لخريجي هذا النوع من التعليم؟ أو لعدم كفاية المخصصات المالية؟. وباستثناء السببين الأخيرين فإن معظم الأسباب السابقة قد تضافرت وأدت بنا للوضع الحالي إلا أن هناك سببا أكثر عمقا في تقديري من كل ما تقدم ويتعلق بعدم مواكبة الإستراتيجية الخاصة بالتعليم لمختلف احتياجات البلاد من القوى العاملة الوطنية في الوقت الذي تكتظ فيه بلادنا بملايين الحرفيين الوافدين ومئات الآلاف من أبنائنا الخريجين في تخصصات نظرية ليس لها مكان في سوق العمل ما دفع الحكومة لدفع ما يناهز الثلاثين مليار ريال سنويا لدعم وتأهيل العاطلين من شباب الوطن ومساعدتهم على إيجاد وظائف لم يهيأ الكثيرون منهم لما هو متاح منها.. بكثرة؛ وأقصد بها الوظائف الحرفية!. ولعل الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح لحل هذه المعضلة تكمن في التعامل معها من جذورها انطلاقا من إصلاح معادلة التعليم في المملكة بالتركيز على التوسع في افتتاح مئات الكليات والمعاهد والثانويات التقنية والحرفية تحت إشراف مجلس أعلى للتعليم يضم جميع الوزارات ذات العلاقة ويستهدف إكساب أبناء البلد أفضل المهارات الفنية والحرفية في كافة المجالات على أن يتم تكليف المجلس المقترح خلال فترة زمنية محددة بالإعلان عن تصور متكامل يشخص الخلل بشفافية ويسمي الأمور بأسمائها بدون مجاملة ولا مواربة ويغلب المصلحة الوطنية العليا التي لا تقبل المزيد من التسويف.. آملا أن يضطلع المجلس المقترح بتحديد التخصصات والمهن التي ينبغي إعطاؤها الأولوية، والآليات اللازمة للتنفيذ ضمن إطار زمني مرحلي واضح تحدد فيه أعداد وتخصصات الخريجين سنويا؛ مع وضع الحوافز المناسبة لإشراك القطاع الخاص في إنشاء الكليات أو المعاهد المتخصصة حرفيا وتوزيعها جغرافيا في البلاد مع ربط المحفزات المقدمة إليهم بأعداد الخريجين ونوعية الحرف التي يسهم المستثمرون في تأهيلها.