يقوم بحث الدكتور محمد جمال باروت (المؤثرات الفكرية للسلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة) المقدم إلى الحلقة البحثية التي أقامها معهد المعارف الحكمية ببيروت في شتاء 2004، تحت عنوان (السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية) الذي أشرنا في مقالينا السابقين: (افتراء على طارق البشري وسرقة منه) إلى فكرته الرئيسة، على تتبع «المؤثر السلفي النجدي، ببنيته المذهبية المغلقة الصلبة في نموذجها المنظومي الوهابي في الوعي السلفي للحركات الإسلامية المعاصرة، ببنيتها السلفية العامة المرنة المفتوحة». ويقتصر تتبعه على الشيخ رشيد رضا وعلى الشيخ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين وعلى المنظر سيد قطب وعلى المنظر أبي الأعلى المودودي. يتساءل في تعريجه على الشيخ رشيد رضا، مستنكراً «كيف تمكنت (يقصد سلفية محمد بن عبدالوهاب) من تحويل بعض أبرز ممثلي بنية السلفية المرنة إلى مدافع عن بنية السلفية المغلقة في رؤيتها للآخر، وفي مقدمته هنا الآخر الإسلامي، والذي كان ممركزاً حول الشيعة، مثل رشيد رضا تلميذ الإمام محمد الذي ترتبط به بنية السلفية النهضوية المرنة، الذي كتب كتاباً يدافع فيه عن موقف الوهابية من الشيعة؟». في سؤاله الاستنكاري هذا اختزل باروت التحولات التي طرأت على فكر الشيخ رشيد رضا في مرحلته الثانية، بموقفه المساجل للشيعة، وبما أنه اختزلها على هذا النحو، ثمة سؤالان منهجيان هما: لماذا لم يرث الشيخ حسن البنا وجماعته، جماعة الإخوان المسلمين، منه هذا الموقف؟! ولماذا اقتصر تأثر المودودي وسيد قطب بالشيخ محمد بن عبدالوهاب -حسب زعمه- على مفهوم الحاكمية، ولم يمتد التأثر إلى موقفه التيمي الحنبلي من الشيعة؟! يُرجع الأمر في إجابته عن سؤاله الاستنكاري إلى «احتدام الصراع بين الليبراليين القوميين المصريين وبين الإسلاميين في مصر العشرينات، إثر فصل مصطفى كمال بين الخلافة والسلطنة في البداية، ثم فصله التام بين الدين والدولة على الطريقة العلمانية الفرنسية النضالية، وقيامه بالإجهاز على منصب الخلافة». ومرة أخرى، بما أنه اختزل تحولات رشيد رضا بموقفه المساجل للشيعة، ما صلة هذا التعليل بالشيعة؟! هل اصطفّ الشيعة مع القوميين المصريين الليبراليين ضد من أسماهم بالإسلاميين؟! وهل كان الشيعة من المؤيدين لفصل الخلافة عن السلطنة؟! وهل كانوا من المؤيدين لفصل كمال أتاتورك التام بين الدين والدولة على الطريقة اللائكية الفرنسية؟! إن تعليله -بصرف النظر عن أنه مقحم- يحتاج إلى تصويب في معلوماته: أول تصحيح أنه لم ينشأ -فضلاً عن أن يحتدم- صراع بين القوميين المصريين الليبراليين وبين من أسماهم بالإسلاميين، عقب فصل الخلافة عن السلطنة، ذلك لأن النخب المصرية العلمانية والدينية كانت مؤيدة لهذا القرار الذي قام مصطفى كمال به، وكانت مناصرة للكماليين ومناصرة قبلهم للاتحاديين. والمناصرة للكماليين لم تكن مناصرة نخبوية وحسب، بل كانت شعبية. قد لا يعلم باروت أن الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام عندما خرج من الأستانة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، فاراً من الكماليين وحل في أحد فنادق الإسكندرية، ونشرت بعض الصحف المصرية نبأ ذلك، أستقبل هو وعائلته أسوأ استقبال من المصريين؛ فلقد قذفوا بالبيض والطماطم الفاسد وبالقمامة، وصاحوا في وجوههم واعتدوا عليهم بالسب والإهانة والشتم في شوارع الإسكندرية والقاهرة، وأخذت الخطابات والبرقيات تنهال عليه من أنحاء مصر تحمل له في طياتها السب والإهانة، وتصفه بالعداوة للإسلام والمروق من الدين، وتطالبه بالرحيل العاجل من مصر، وهاجمته الصحافة المصرية هجوماً شديداً. (أنظر المقابلة التي أجراها الدكتور مفرح بن سليمان القوسي مع نزاهت هانم ابنه الشيخ مصطفى صبري ومع صديقه علي علوي قوريجي، وطالع نماذج للبرقيات والخطابات في ملاحق كتابه: الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، وأنظر ص114 من الكتاب). هذا الاستقبال السيئ له في مصر، دفعه إلى مهاجمة المصريين في العديد من فقرات كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والنعمة) الذي أنجزه في 20 مارس 1924 ببيروت، حين أقام فيها إقامة موقتة. وهذا الكتاب -كما يقول ابنه إبراهيم أستاذ اللغات الشرقية في جامعة الإسكندرية- هو استكمال لمناقشته علماء وأدباء مصر وصحافتها في موقفه من الانقلاب الواقع في الأناضول (أنظر المرجع السابق ص 627). وكان من علماء الأزهر الذين ردوا عليه بعنف حين كتب في ( الأهرام) و(المقطم) مهاجماً فصل كمال أتاتورك بين الخلافة والسلطنة، الشيخ محمد حسنين وكيل الأزهر ومدير المعاهد العلمية، والشيخ على سرور الزنكلوني. ومن أبرز ما كتب في الرد عليه في رأي الدكتور محمد محمد حسين، مقال الشيخ محمد شاكر: (ما شأن الخلافة بعد التغيير)، وقد قدم عرضاً لأهم ما جاء فيه. (أنظر كتابه: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر في جزئه الثاني، ص31 و32 وأنظر المرجع السابق). الشيخ محمد شاكر حينما كتب رده كان وكيل مشيخة الأزهر السابق، وهو والد المحدث والمحقق السلفي أحمد شاكر، والأديب ذو النزعة السلفية محمود شاكر. إن حادثة فصل الخلافة عن السلطنة كان لها رد فعل معارض في الهند عند زعمائها المسلمين وليس في مصر. وكان من أبرزها اعتراض الزعيمين المسلمين أغا خان وأمير علي؛ الأول مسلم إسماعيلي والثاني مسلم إثني عشري، وهما رفيقا السير أحمد خان المسلم السني في حركته الإسلامية التحديثية. ثاني تصحيح، أن الفصل التام بين الدين والدولة على الطريقة الفرنسية النضالية، ويعني به قرار إلغاء الخلافة عام 1924، لم ينشأ عنه صراع بين القوميين المصريين الليبراليين وبين من أسماهم بالإسلاميين، فقد قوبل هذا القرار في مصر على نحو عام بمعارضة تفاوتت درجتها، وقوبل بحزن وأسى، وكان ممن عبر عن حزنه وأساه، محمد حسين هيكل وكان في ذلك الوقت، أحد زعماء حزب الأحرار الدستوريين وأحد المنظرين العلمانيين الكبار للقومية المصرية الفرعونية. إن الذي أثار جدلاً وخلافاً سياسياً هو عقد مؤتمر إسلامي من أجل الخلافة في مصر، وفكرة نقل الخلافة إليها، وكان هذا الجدل والخلاف حول المؤتمر وحول هذه الفكرة ممتد إلى خارج مصر، فثمة معارضون لعقد المؤتمر في مصر، ولفكرة نقل الخلافة إليها من الزعامات السياسية والدينية في بعض البلدان الإسلامية، سنة وشيعة. كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر في عام 1925، والذي هو أحد تداعيات قرار إلغاء الخلافة، وفكرة نقلها إلى مصر، كان هو البداية في نشأة الصراع بين الاتجاهات العلمانية الليبرالية والاتجاهات الدينية. ثالث تصحيح، أنه استخدم تعبير (الإسلاميين) في مقابل القوميين المصريين الليبراليين، وهذا التعبير استخدمه في غير موضعه وفي غير زمنه؛ لأنه في الفترة الزمنية التي يتحدث عنهما لم تكن في مصر ثمة كتلة سياسية ولا كتلة اجتماعية ولا فكرية تسمى بالإسلاميين، كما أن (الإسلامية) بوصفها أيديولوجيا لم تنشأ بعد. ففي واقعة فصل الخلافة عن السلطنة وواقعة إلغاء الخلافة، كان المسهمون في النقاش (علماء دين أزاهرة) و(أدباء) و(صحافيين). وهاتان الواقعتان -كما أوضحت من قبل- لم ينشأ عنهما أو بسببهما فرز واضح ما بين الاتجاهات العلمانية والاتجاهات الدينية. ولتأكيد ما نقوله، سنستشهد بتصنيف رشيد رضا للتيارات في تلك الفترة. هذا التصنيف هو: حزب المتفرنجين. وقال عنه: إنه حزب قوي ومنظم في الترك، وغير منظم وضعيف في مصر، وضعيف في مثل سورية والعراق والهند. وحزب الإصلاح الإسلامي المعتدل. ويقصد به نفسه وآخرين من أتباع محمد عبده من الدينيين. وللإشارة إلى عدم صحة استخدام باروت لتعبير الإسلاميين في ذلك الوقت، نذكر أن محمد عبده كان هو الأب لحزب الأمة الذي انقسم إلى حزبين علمانيين هما: حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين، وأن ثورة 1919 التي اتخذت منحىً علمانياً وطنياً، شارك فيها كثير من شيوخ الأزهر وتلامذته، ورجال دين مسيحيين.