تبني رواية «مناخ الشهوة» للكاتب علي عبدالله العلي عالما متخيلا يعتبر بمثابة انعكاس للعالم الواقعي، وحتى عندما يتم تحريفه، وحتى عندما تتمظهر الحكاية في مكان أو زمان لا يمتان بصلة إلى عالمنا، فالقارئ يقوم بين عالم الرواية وعالمه الخاص برحلة «ذهاب وإياب» تؤدي إلى التفكير في عالمنا. الرواية، تعيد خلق مجتمع بشري بمميزاته وعيوبه، ومن هنا تحمل «وجهات نظر العالم» تنتقل تدريجيا إلى القارئ من خلال الشخصيات، والعلاقات بين الشخصيات والسارد، ولكن أيضا مع العناصر الأخرى للنسيج الرواية. يظهر ذلك جليا في تجارب الرواية الاجتماعية التي تنتقد واقعا اجتماعيا لشرائح من المجتمع ومن خلال بنيته الاجتماعية البطريركية والذهنية المعقدة جدا، ومن خلال اللقاء الذي هيأه المؤلف لشخصياته المصنفة نجد أن الشخصيات نوعان إما منكفئة على نفسها ميالة إلى الانغلاق والتشدد أو الحلم والرومنسية أو منفتحة شغوفة بالحرية ميالة إلى كسر القيود الاجتماعية والذهنية الظلامية، وبين النقيضين تحدث وقائع يأسرها الروائي علي عبدالله العلي ويسرد تفاصيل حياتها المعقدة والمتشابكة وهنا أفكر أن الشخصيات الروائية السعودية التي قرأت عوالمها لحد اليوم لا تبارح هذين النوعين. مناخ رواية علي عبدالله العلي قاتم وهجيري تكاد تنحبس فيه الأنفاس لولا تلك الإشراقات التواقة إلى الحب والحرية والجمال التي تتداعى من شخصية بطل الرواية «سعود عبدالكريم» أو أبطالها الموازون مثل شخصية «مريم» أو صديق سعود «سامي صالح». إن كانت الرواية تبدأ بحادث قتل السائق الآسيوي ثم تنته بالحدث المفجع نفسه إلا أنها تختزل تاريخا مديدا لمدينة «الجبيل» تلك المدينة الصناعية الواقعة في المنطقة الشرقية التي عرفت نموا ديموغرافيا واقتصاديا كبيرا يقول عنها بطل الرواية «سعود عبدالكريم» الموظف في إحدى شركاتها: «منذ أن جئت في العشرينيات من عمري إلى الجبيل في المنطقة الشرقية مع موجة من الشباب الباحثين عن العمل من كل مناطق المملكة المترامية الأطراف من الشمال والجنوب والغرب ومن الشرق حيث الجبيل خليط من الشباب والعوائل والعادات والتقاليد واللهجات والحاجات واختلاف أجناس البشر من كل أنحاء العالم.. سكنت مع مجموعة من العمال السعوديين في عزبة في أحد البيوت الشعبية في وسط الجبيل القديمة حتى تحسنت ظروف عملي وعدت إلى حائل لأتزوج موضي ولأعود بها إلى المنطقة الشرقية، فاستأجرت شقة في منطقة جديدة تقع قبالة البحر في الجبيل البلد كما يطلق عليها سكان الجبيل لتمييزها من مدينة الجبيل الصناعية». وبذلك تتداعى الأحداث بين استرجاع لحياة البطل قبل مجيئه إلى الجبيل أو خلال إقامته بها، تتميز ذكريات البطل بجراح دفينة تستيقظ آلامها بين الفينة والأخرى متذكرا وفاة الأم والأخت اللتين تركا تأثيرا عميقا في نفسية البطل خصوصا أنه يقرن موتهما بالماء/ الغرق بماء السيل/ الغرق في بركة تجميع الماء. بحيث يتحول الماء في ذاكرته إلى نقمة. وعندما يعود البطل إلى الحاضر، فإنه يربطه بالواقع الاجتماعي للجبيل واصطدامه بظروف العمل وتدخل بعض الأشخاص بفكرهم المتزمت في حياته الشخصية، لكن بين الغيوم المكفهرة تشرق علاقته الزوجية الجميلة بموضي وعلاقته بصديق الطفولة والدراسة سامي صالح الذي أهداه أول رواية لنجيب محفوظ «أولاد حارتنا» سامي صالح من أشعل في قرارة روحي قراءة الحياة بشكل مختلف حين أهدى إليّ أول رواية أمسكها بين يدي لنجيب محفوظ... أولاد حارتنا.. وفتح عيني وقلبي على مغاليقها عندما فقط قال لي: فكر من هو إدريس في الرواية!! «الكتاب وحب القراءة سينسج بينهما علاقة عضوية، مضيئة، لكن سرعان ما ستنطفئ جذوتها بفعل الرقابة الصارمة على المطبوعات وما أسفرت عنه من اعتقال وانقطاع التواصل بينه وبين صديقه، الذي تبخر بين تلابيب الواقع المرير. بطل الرواية، سعود عبدالكريم من خلال مساره، أصبح تدريجيا رمزا لقيمة إيجابية: أنه يجسد فضيلة الوفاء للزوجة والصديق، كما يجد لنفسه وسيلة القراءة والتوق إلى المعرفة والفكر المعتدل، ليموقع نفسه في العالم. يحاول الروائي أن ينتقد المجتمع الذي وضع فيه شخصياته: حتى وإن كانت حياة متخيلة، فإن صدى الواقع بصراعاته المثيرة والشاذة يتردد بقوة متمثلا في تعنيف الزوجة أو تعنيف الأخت أو الاعتداء على الأطفال. هناك تجسيد واضح لقسوة المجتمع الأبيسي، دون العثور على «علاج» لآفة السلطة الذكورية. لا يحاكم المؤلف أبطاله السلبيين بقدر ما يوفر لنا رؤية شاملة لعالمهم من خلال وصفهم «بموضوعية» جارحة وفاضحة. وأخيرا، فإن رواية علي عبدالله العلي تقدم رؤية للعالم، ليس بالمعنى السياسي أو الفلسفي ولكن بحس جمالي. يرصد تيمات المجتمع السعودي ويمعن فيها عرضا وتشريحا ويصوغ من الكلمات إيقاعات وأصوات، تتداخل فيها الكلمة والفكرة لتنشئ حكاية تنقل للقارئ وجهة نظر مختلفة عن العالم. ربما يجهلها بتاتا. رواية «مناخ الشهوة» تترك فينا بصمة مؤلمة بأوصاف العنف أو مشهد القتل أو مشهد الاغتصاب. ولكن كلمة الألم كلمة ضعيفة، ربما كلمة الصدمة أفضل. في الحقيقة، زرع الروائي مشاهد مؤلمة وأخرى مفعمة بالأمل. وكأن الروائي يريد تطهير أرواح شريرة والخلود إلى حياة جديدة تلوذ بالنسيان وتؤمن بالإنسان. رغم مناخ الرواية الرمادي إلا أنها توقع حضورا سرديا متوهجا وباذخا لروائي مقل في الابداع، لكنه مجيد للكتابة الروائية.