سكنت ذاكرته احتفالات عودة الحجاج. تفوح روائح البخور من أبواب البيوت. المخلوبة جدرانها بالشيدة. والمرسوم عليها بالصباغ الملون. والممددة على أرائكها شراشف منقوشة. استعاد نصب المداريه (المراجيح) وترديد السيدات (درّه يا جمل درّه) استجداء لعودة زوج أو حبيب غائب. واصطفاف الصبايا بالدفوف فوق الرعوش وأمام البيوت مرحبات ومسهلات. عقد العزم.وأسرّ إلى أمه أنه نوى الحج. قالت الأم: ما يحج إلا قوي وإلا صاحب حيلة. أنا دفعك تفكنا. ردّ أنا شاب قوي. وولد فلان وفلان ما همب أحسن مني. أسافر أقضي الفريضة. وأترزق الله. وأجيك بالدراهم والهدايا لك ولأخواتي وخالاتي وجاراتنا. علّقت: العلم في رأس أبوك. ألمح له إن كان وافق. انفرد بالشيبة الذي كان في حزة ضيق. ونفسه رأس خشمه. قال: يآبه ودي أعلّمك بعلم.. ردّ: وخّر عني في سعة الله. آهي واصلة كيس التنباك. يا به ودي أحج. يا ولد: أقعد وتشفّق ونعم. يا به شباب القرية كلهم حجوا. والله إني باحج. في ثمّها إذا فغرت جرت على لسان الأب. حمل زعبته وفيها شتفة خبزة من حبّ البلاد. وحبات من تمر العقيق. وانطلق صبح جمعة في رفقة. وطول الطريق وهم يستعيدون قصص المكاكوة مع الحُجز. ويمنون أنفسهم عند عودتهم بالتراحيب والدسم والغطاريف والقبلات. وصل مكة. عمل في حمل الشبرية. أياما وليالي وجمع ما تيسر. ثم صعد لعرفات. محرما وملبيا. وعاد من ليل ثان للعمل. حتى انقضى الموسم. اشترى أقمشة، وعطورا، وشراشف، ومعاصب شفيفة، وعمائم، وحمبص وحلاوة. وترقب موتر الجعفري حتى اكتمل ركابه واستقعد فوق البرندة. منذ أطل عليها من قمة جبل. خامرته الشكوك. لا مظاهر فرح. ولا أحد في استقباله. لا صبايا في الطرقات. وصل البيت. سلّم على أمه وأبيه. والتساؤلات تحتشد في صدره ورأسه. قال لأمه: وشب القرية لا هياد ور ياد. ما كني كنت مسافرا. قالت: جاء وافد وأخلف ملّة الناس. حرّم العادات والترفيه. وألبس قريتنا لباس الحزن. قال: والهدايا تيه اللي جبتها وش أعبا بها؟ قالت: خلّها لأخواتك. قال بحزن «وش حجّينا له». علمي وسلامتكم.