قبل سنوات قليلة، أعدت أمريكا وحلفاؤها العدة لتوجيه ضربة عسكرية كاسحة ضد المنشآت النووية الإيرانية، وبخاصة أهم ثمانية مواقع نووية، في طول إيران وعرضها. ووضعت «خطة» لهجوم عسكري صاروخي، من الجهات الأصلية الأربع، وبمشاركة إسرائيلية في العمليات اللوجيستية. بل أجريت «بروفات» شبه نهائية للضربة، بعد أن تم اختراق معظم المواقع الإيرانية المستهدفة، وتصويرها، وإلصاق مواد ببعض أجزائها، لجذب الصواريخ المهاجمة. وحبس العالم أنفاسه، خوفاً وهلعاً من حدوث هذا الهجوم.... ذلك أن شنه قد يقود العالم إلى حرب عالمية، أو إقليمية، ودمار اقتصادي شامل.... يلحق بكثير من أرجاء العالم، بما فيه أمريكا. لذلك، كان المراقبون يستبعدون ذلك الهجوم، لعدة «أسباب»، أهمها: رد فعل إيران وحلفائها، الذي قد يحيل الهجوم إلى كارثة إقليمية.... وكذلك: وضع أمريكا العالمي والإقليمي الراهن.... وعدم قدرتها على تحمل فتح جبهات معادية جديدة. وتم لاحقاً بالفعل استبعاد هذا الخيار العسكري. وإن ظل الأخذ به وارداً ومحتملاً. وفي الواقع، وجد الغرب المتنفذ أن هناك خيارين أمامه في ما يتعلق بالتعامل مع طموح إيران النووي الحربى: إما إجبار إيران على التفاوض بشأنه (عبر العقوبات) بهدف نزع أي توجه عسكري فيه، أو توجيه ضربة عسكرية إليه. ورجح الخيار الأول لما ذكر من أسباب. **** تراجعت أمريكا عن الهجوم، بعد أن أدركت إدارة أوباما أن من الأخيَر لها ألا تتسرع في مهاجمة إيران... حتى لا تثور قوى في العالم ضدها، وبخاصة روسيا والصين. وكان أن قدمت (هي ودول خمس كبرى أخرى) «مبادرة» لإيران، ملخصها: رفع الحصار، وقيام هذه الدول بتقديم مساعدات نووية سلمية لإيران، لتطوير استخدامها للقوة النووية، في تحلية المياه وتوليد الطاقة، مقابل أن توقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم على أراضيها. قبلت إيران هذه المبادرة التي بها بعض الإيجابيات لها. أما السلبية الكبرى، بالنسبة لإيران، فهي: وقف تخصيب اليورانيوم وأبحاثه، إلى درجاته العليا... وهذا ما لم تقبله إيران تماماً. فتلكأت في تنفيذ تلك المبادرة. واعتُبر ذلك رفضاً.... استوجب: تحويل الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن الدولي. لذلك، أصر المعادون على ضرورة توجيه الضربة العسكرية، خاصة عندما رفضت إيران صراحة وقف عمليات التخصيب. ولكن خيار العقوبات والتفاوض رجح، ونتج عنه في ما بعد اتفاق لوزان النووي، الذى مر عليه الان أكثر من عام. ولا يستبعد المراقبون أن التوصل إلى هذا الاتفاق كان نذير تناغم إيراني – أمريكي (تكتيكي) فرضته أحداث وأوضاع المنطقة الراهنة، وربما مؤشر، قد يسفر لاحقاً عن تسهيل قيام واستتباب «الهلال الشيعي» الذي ربما يرى الغرب المتنفذ أن قيامه يعمق الشرخ الخطير بين السنة والشيعة. والتأييد الغربي (الضمني) لهذا المشروع الفارسي التوسعي العدواني يمكن اعتباره من قبيل النكاية بالعرب السنة، وليس محبة في الشيعة. الأمر الذى يوجب على كل المسلمين الحذر، والعمل على رأب الصدوع في ما بينهم، أو تخفيف حدة تلك الصدوع، على الأقل. **** ولا شك، أن امتلاك إيران لسلاح نووي يمثل خطراً داهماً على المنطقة والعالم، نظرا لما لهذه الدولة العنصرية من سياسات توسعية معروفة. ومعظم المؤيدين لقيام إيران نووية يتحججون بامتلاك إسرائيل لهذا السلاح الفتاك. ولا جدال أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، واستخدامها الضمني اليومي (غير الفعلي) لهذا السلاح، أعطى إسرائيل الفرصة كاملة للعربدة في المنطقة، ومفاقمة عدم استقرارها المزمن، عبر فرض هيمنة صهيونية مرفوضة. لذا، كان من مصلحة العرب استغلال موضوع الملف النووي الإيراني للفت نظر العالم للسلاح النووي الإسرائيلي. لكن الغرب المتنفذ نجح في صرف الأنظار عن السلاح الإسرائيلي، بطرقه المعروفة. لقد «كسبت» إيران من صلابة موقفها النووي، خاصة بعد أن تراجعت أمريكا عن الخيار العسكري، واعتمدت على وسيلة العقوبات، لإرغام إيران للجلوس على مائدة المفاوضات بشأن إمكاناتها النووية. ولكن قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم مودعة في صدور علمائها النوويين. وهم الآن كثر. وما زالت إيران تمتلك منشآت وتقنية نووية حديثة ومتطورة. إضافة إلى معرفة نووية كبيرة. وهذا ما يجعل إيران قادرة، في أي وقت، على الالتحاق بعضوية «النادي النووي»، ما لم يتم تشديد الرقابة الدولية على نشاطها النووي، كما تنص اتفاقية لوزان الإطارية. والأهم ألا يُسمح لإيران بمد نفوذها المباشر في الجوار، على حساب الغالبية العربية في هذه المنطقة. وتظل من مشكلات العرب الاستراتيجية الكبرى هي سياسات الغرب المتنفذ السلبية تجاههم، وما يستخدمه من وسائل (تكتيكات) منها: التحالف التكتيكي، الضمني والصريح، مع أعدائهم، ومنافسيهم، مثبتاً أن ليس لهذا الغرب صداقات، أو عداوات، دائمة، وإنما «مصالح» دائمة. ومن المؤسف أن هذه المصالح هي لجماعات غربية لا تمثل أغلبية الشعوب الغربية في كل الأحوال. [email protected]