قال الشاعر الحميدي الثقفي إن أفضل تفاعلات القصيدة الشعبية الحديثة تشكلت في «الغربية» وسعت إلى تكوين ثقافي فني رائع وأخذت حيزاً جيداً في المشهد الثقافي المحلي والخليجي. وكشف في حوار مع «عكاظ» السر وراء وجوده الإعلامي في صحافة «الغربية»، وأسباب عدم نشر قصائده في الصفحات التي كان يشرف عليها الشاعر فهد عافت، كما اعترف الثقفي بأنه عاش الصعلكة في مرحلة الصبا، مبينا أن الصعلوك يمثل رفض الظلم والقمع والاضطهاد. وانتقد الحميدي إقصاء مؤسساتنا الثقافية للشعر الشعبي، لافتا إلى أنها معتلة بالبيروقراطية وتنأى بنفسها عن الناس والفنون.. إلى نص الحوار: شهدت الساحة الشعبية أخيراً هروب الحميدي الثقفي من شعر النظم إلى ساحات العرضة، وانحياز فهد عافت لكرة القدم، وانغماس عواض العصيمي في عالم الرواية والقصة القصيرة، ألا ترى أن تجربة الشعر الحديث في العامية الخليجية تواجه الخذلان من رموزها؟ لا أرى الأمر على هذا النحو، وإذا أردنا أن نستشرف السؤال بدقة؛ فيلزمنا أولاً تحديد مفهوم «الساحة» هذا المفهوم العتيق الذي لم يعد موجوداً لنحصر الشعر فيه، يبدو أن وسائل الاتصال الحديثة وعوامل الحضور المتعددة هي ما جعلنا نفتقد إدراكنا لحضور الشعر العامي الحديث رغم وجوده المستمر وإن كان «الشعر الحديث» حالياً، يندر وجوده لتطور وعي الأسماء المنتجة للتجربة أو تنامي إدراكها لمفهوم الشعر والفن وتعدد طموح الرموز في تكوين شخصياتهم الإبداعية وذلك حق مشاع، فبالتالي لم أهرب ولم ينزوِ عافت ولم ينغمس العصيمي، وإن كنت لا أحصر التجربة في أسماء محددة، إنما هناك تشكّل في الوعي جعل الصورة أكبر من حصرها في «ساحة». وهل استفاد الشعر من وسائل التواصل الاجتماعي؟ بالطبع استفاد، إذ إن قنوات التواصل الاجتماعي جعلت ما ينتجه المبدع في متناول الجميع وبسرعة فائقة ومتعددة، كما أنها مكنت المبدع أو أي فنان من اكتشاف مساحات أخرى في حياته وجوانب فنية يستطيع «ذلك الفنان» الظهور من خلالها، وأعطت وسائل الاتصال الحق كاملاً للمنتج في ممارسة التجريب في أنواع وأشكال تجريبية أخرى، ولذلك نستطيع أن نقول: «الفائدة موجودة حتماً». المتابع لحسابك في تويتر يلحظ أنك لا تعترف كثيراً بالخطوط الحمراء، لكنك في الآونة الأخيرة أصبحت تميل إلى إعادة تغريدات الآخرين أكثر مما تكتب.. فهل هي خطوة احترازية لتجنب المزيد من «الشطحات»؟ الخطوط الحمراء تولد مع الإنسان أو بالأصح موجودة قبل أن يولد، إذ وضعها مَن هُم قبله، لذلك يسعى الإنسان للنظر في تلك الحواجز وإعادة صيغها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وهي نتيجة حتمية لمن أعطاه الله عقلاً، ولو عدنا يا عبدالله إلى الوقت الماضي/القريب، وتأملنا بعض الخطوط الحمراء التي كانت تحيط بحياتنا وتجاوزناها في ما بعد، لاكتشفنا سذاجة العقول التي وضعتها. أنا لا أرى في ما أغرد به تجاوزاً لخطوط حمراء أو سوداء وعلينا كمجتمع سعودي أن ندرك أن «تويتر» فضاء عالمي وليس قناة تلفزيونية يملكها أفراد أو جهات خاصة، تويتر هو أقصى ما وصل إليه الفكر ويعد فضاءً حراً لقول ما يريد الإنسان. وأعتقد أن من اخترع مفردة «شطحات» هو نفسه من سلالة المغرمين بالخطوط الحمراء، وفي ما يخص إعادة التغريد، فهو تفاعل ثقافي مشروع، ولا يقل صعوبة عن استنبات تغريدة جميلة في عالم قبيح. قلت في أحد لقاءاتك «لست لساناً لأحد، لا للشعر ولا للقبيلة ولا للمجتمع ولا للطائف ولا لجدة، ولا لشيء.. أنا لسان حالي فقط».. هل يعني ذلك بأن الحميدي الثقفي يعيش في غرفة مغلقة.. أم أنه أراد أن يعلن انحيازه الصريح لنظرية «الفن للفن»؟ مقولة: «الشاعر لسان قومه» لم تعد تستوعب الشاعر ككائن يمارس نشاطاً إنسانياً عظيماً كالشعر، وعلينا ألا نسقط «مصطلحات» شعبية ضيقة على ما وصل إليه العقل الإنساني من فهم كبير لمفهوم الشعر والفن، على الأقل أنا لا أرغب في وضع نفسي في إطار ضيّق كهذا وأنا لست في عزلة، وهي عظمة لا أدعيها، بل ليتني أستطيع العزلة. كيف تنظر إلى «الصعلكة»، وهل توافق عروة بن الورد عندما قال: لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر صدقني يا عبدالله لم أفكر يوماً في تعريف محدد لماهيّة الصعلكة، وربما أنني عشت شيئاً منها في الصبا، لكني لم أنظر لنفسي كصعلوك، ثم بعد قراءتي لشعر الصعاليك وحياتهم الاجتماعية والنفسية أذهلني صفاء جوهرها، وفشلت في اكتساب شرف الصعلكة. أما في ما يخص بيت عروة بن الورد فأنا أشك أن يكون عجز البيت الثاني لعروة، فالرواة والمؤلفون يحدثون ما لا يطيب للشاعر نفسه، ثم إن العوامل التي أنتجت حياة الصعاليك لم تعد قائمة، لذلك لم ألتفت إليها إلا كمكتسب ثقافي بما تزخر به من قيم لامعة، وتبقى «الصعلكة» شرفاً لا أدعيه. ولكن أعظم الصعاليك كان يلعب دور «الحرامي الشريف» ومنهم «عروة بن الورد» و«روبن هود» -إذا افترضنا أنه شخصية حقيقية- وغيرهم، إذ كانوا يقتلون ويسرقون، ورغم ذلك تناسى عشاق «الصعلكة» إجرامهم وخلدوهم كفرسان وأبطال.. كيف ترى ذلك؟ أعتقد أن القيم النبيلة التي تشكل شخصية الصعلوك كانت تطغى على سلوكه الاجتماعي الشرس، كما أن هناك أسباباً اجتماعية ونفسية صنعت الصعلوك؛ فالمجتمع أيضاً كان يجور على بعضه بعضاً تحت مظلة من التبريرات التي لا تعجب الصعلوك؛ فانتفض عليها، بمعنى أن الصعلوك يمثل رفض الظلم والقمع والاضطهاد وهذا هو المكون الأساسي لشخصية الصعلوك، ولست أملك تنظيراً شاملاً لمثل هذه الظاهرة الاجتماعية، ولكن أعتقد أنها ظاهرة اتسعت باتساع المجتمعات الإنسانية ولم يعد للصعلكة بمفهومها الشعبي وجود، فالثوّار على امتداد تاريخهم يحملون جينات تلك الظواهر الاجتماعية ونالوا كثيراً من المحبة والتعاطف والإعجاب من الناس. لو كنت قائداً لكتيبة الشعراء الصعاليك، من ستختار من الشعراء المعاصرين لتلك الكتيبة.. ولماذا؟ لا أتصور نفسي في هذا المشهد أبداً، فأنا إنسان بسيط وكادح ومسالم وسأرفض ذلك بطبيعة الحال. تقول ذات بوح متفرد: رغبت القصيده رغبة الطير للتحليق .. سماي اصبعين وبينها الجرح مسباقي هل ما زالت تلك الرغبة موجودة داخلك وبنفس القوة أم أنها بدأت في التلاشي؟ هذا بيت قديم، وقد كنت حينها متحمساً ومتفرغاً للقصيدة ليل نهار، وكنت أعيش موسيقاها ولحظاتها مبتهجاً آنذاك، لكن إحساسي أخيراً اختلف في التعاطي مع القصيدة من إحساس خاطف وشعور احتفالي إلى إحساس متّقد وموجع وذي غبطة هادئة بطبيعة الحال. تم تكريمك أخيراً في المؤتمر العربي للثقافة والإبداع.. كيف تنظر لتكريم الشعر الشعبي ممثلا في شخصكم، خصوصاً أنه يواجه الإقصاء من بعض مثقفينا ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية؟ تلقيت بالفعل دعوة كريمة من الشاعر عبدالله الخشرمي والدعوة تنم عن كرم لا يردّه إلا لئيم، ولو لم أخرج من تلك المناسبة إلا بلقائي بقلب الرياض النابض الأمير فيصل بن بندر والإخوة والأخوات الذين كان لي شرف التكريم معهم لكفى، والشعر الشعبي سيظل في وجدان إنسان الجزيرة العربية متجذراً ويتشربه كل يوم كما يشرب قهوته، فشكراً لهم، أما بالنسبة لنأي المؤسسات الثقافية بنفسها عن الشعر الشعبي فهي منذ عرفناها وهي تنأى بنفسها عن الناس وعن الفنون وليس ذلك بمستغرب، فهي تعيش معتلّة بالبيروقراطية والإرث الصحوي، وسيختلف الأمر مستقبلاً. ما مدى رضاك عن مهرجان سوق عكاظ المقام حاليا في الطائف؟ وهل أنصف الشعر؟ مهرجان سوق عكاظ يمثل «نواة» حقيقية لحراك فني وثقافي هائل، ويشهد المهرجان تطوراً من عام إلى عام، وهناك من يبذل جهداً كبيراً من القائمين عليه وهم كوادر جيدة تستطيع أن تقدم ما يبهج الناس. والمهرجان هذا العام، كان فعالية رائعة، من القصيدة إلى المحاضرات إلى الغناء والرقصات الشعبية والحرف. في العصر الذهبي للصفحات الشعبية، كان وجودك في صحف الغربية، أكثر منه في صفحات المنطقة الوسطى والخليج.. ما السر وراء ذلك؟ كانت نتيجة طبيعية لظروف تاريخية ومكانية، إذ تشكلت أفضل تفاعلات القصيدة الشعبية الحديثة في «الغربية» وسعت إلى تكوين ثقافي فني رائع وأخذت حيزاً جيداً في المشهد الثقافي المحلي والخليجي، بصرف النظر عما كان يحيط بها من ارتباكات إعلامية وضجيج يفتقد للرؤية. هل هذا يعني أن مدرسة الشعر العامي الحديث على مستوى الخليج، نشأت في الغربية؟ جزء كبير منها تشكّل في صحافة الغربية، وفتحت القصيدة الشعبية الحديثة نوافذها على نهضة الأدب الحديث المتزامن معها في الثمانينات، ولست واهماً في ما أرى، إلا أنني لا أحصر نشوءها في ذلك. وهل وجودك في إعلام الغربية يعود لقناعتك بنضج التجربتين الشعرية والإعلامية في الحجاز؟ كانت هي السبيل المتاح مع التقاء الكثير من القناعات في الكوادر التي كانت تشرف على وسائل الاتصال آنذاك؛ فكنا نلتقي شعراء وصحفيين ومتلقين ونشترك في النقاش الواعي بتلك المرحلة. لماذا لم تنشر في الصفحات التي كان فهد عافت يشرف عليها.. هل بينكما خلاف أم كنت تعتقد أن عافت لن يحتفي بقصائدك كما يجب؟ لا أدري، لم أفكر في هذا الأمر وقد نشرت لي مجلة إماراتية ربما (حياة الناس)، حواراً مطولاً وكان عافت أظن انطلق من تلك المجلة وهو كادر صحفي من طراز نادر، لكن الصدفة وحدها هي من كانت تحدد مكان النشر، وتظل مسألة احتفائية محرر بقصيدتك من عدمه أمراً هامشياً جداً، ولن تكتب القصيدة التي تريد بمجرد تفكيرك في أمور كهذه.