لا نأتي بجديد في كلامنا على أن عروة بن الورد مثل حالة اشتراكية بدائية، هو وصعاليكه، بدلت مفهوم «الصعلوك» من البائس الجائع إلى المتمرد الثائر، بل والكريم ايضاً. لكن ميزة في شعر عروة «سيد الفقراء والصعاليك» تستحق الوقوف عندها، الا وهي: مديح المال والغنى، حتى ليظن المرء انه قد اسف في ذلك. فلم يمتدح الغنى شاعر كما فعل عروة بن الورد، كما لم يذم الفقر شاعر كما فعل هو. حتى حاتم الطائي الذي وصف بأنه اكرم العرب، لم يبلغ شيئاً مما بلغه عروة في هذا المجال. وعلى ذكر حاتم لابد من ان تتبادر الى اذهاننا مقولة شهيرة لعبدالملك بن مروان «من زعم حاتماً اسمح الناس، فقد ظلم عروة. فهذا الخليفة كان من اشد المعجبين بسيد الصعاليك الى درجة انه قال «ما يسرني ان احداً من العرب ممن ولدني لم يلدني، الا عروة بن الورد لقوله: «اني امرؤ عافي إنائي شركة/ وانت امرؤ عافي إنائك واحد». وربما يكون كرم عروة وحبه للسخاء من جعلاه صعلوكاً نهاباً للاغنياء والبخلاء، فالمعروف انه كان سيداً في قومه قبل ان يتصعلك. وكما نعرف جميعاً كان عروة، اذا ما اصاب الناس شدة فتركوا المريض والمسن في دارهم يجمع اشباه هؤلاء المستضعفين من عشيرته ويكنف عليهم الكنف ويكسوهم ومن قوي منهم اما مريض فيبرأ من مرضه، واما ضعيف تثوب قوته، خرج به معه، فأغار وجعل لاصحابه الباقين في ذلك نصيباً، حتى انه كان يؤثر على نفسه، مع ان كثيراً منهم كان حين يتمول ويغنى يتنكر لعروة ومعروفه، لذلك تراه يقول: «الا ان اصحاب الكنيف وجدتهم كما الناس لما اخصبوا وتمولوا» وبالعودة الى موضوعنا نجد قصائد عديدة لدى هذا الشاعر تدور في اطار مديح الغنى ومذمة الفقر، وربما اشهرها تلك التي يقول مطلعها: دعيني للغنى اسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير .. ويقصيه الندي وتزدريه حليلته، وينهره الصغير ثم يتابع وصف حال الغني الذي يشفع له ماله حتى في ذنوبه: ويلفى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه، والذنب جم ولكن للغنى رب غفور بل ان الامر وصل به الى حدود الاختيار بين الموت والفقر، فلنستمع الى ما يقوله في قصيدة اخرى: فسر في بلاد الله والتمس الغنى تعش ذا يسار او تموت فتعذرا وفي قصيدة اخرى يعبر عروة بفجاجة اكبر عن فوائد المال بالقول: المال فيه مهابة وتجلة والفقر فيه مذلة وفضوح وفي غيرها اكثر ذيوعاً بسبب بيتها الشهر (وسائلة: أين الرحيل؟ وسائل/ ومن يسأل الصعلوك: أين مذاهبه») يقول: فلَلموت خير للفتى من حياته فقيراً ومن مولى تدب عقاربه وبالطبع، الباعث الاول لهذا «الهيام» بالغنى والمال هو كما يكرر عروة دائماً: مساعدة البائسين والمحتاجين، متجنباً استعمال مفردة «الكرم» ومشتقاتها (على العكس من حاتم الطائي مثلاً) لا بل انه يلوم زوجته اذا ما اعتبرت اطعام الفقراء كرماً: أفي ناب منحناها فقيراً له بطنابنا طنب مصيت وفضلة سمنة ذهبت اليه واكثر حقه ما لا يفوت إذاً لا يكتفي عروة برفضه اعتبار اطعام الفقراء كرماً، لا بل انه يذهب الى ابعد من ذلك معتبراً ان ما يستحقه الفقير هو اكثر من ذلك ومستعملاً تعبيراً شديد الخصوصية «وأكثر حقه ما لا يفوت» ومن خلال هذا المشهد لتحرّق عروة بن الورد للكرم والمساعدة وحتى البذخ فيهما يمكننا ان نفهم اسباب «حقده» على الفقر والعوز. ولذلك كان يستصرخ قومه دائماً: اقيموا بني لبنى صدور ركابكم فكل منايا النفس خير من الهزل والهزل هنا هو الجوع الذي هو اشد صور الفقر مرارة وبؤساً. وهذا يعزز من خصوصية حركة الصعاليك الفريدة من نوعها في بيئة صحراوية شحيحة ومتقلبة. لذلك يمكننا النظر الى مديح عروة بن الورد للغنى والمال، خارج السياق الشخصي على انه مديح لرؤيا اجتماعية يتساوى فيها الناس ويتكافلون فيكون للعاجز والضعيف والمريض ما للقوي والقادر والغني. لقد مثل عروة قيماً اجتماعية محلوم بها، تدعو الى المساواة والتكافل والتعاضد، وان كان لم يجد طريقاً الى ذلك سوى طريق الثورة والنهب وقطع الطرق. ولذلك طالما ردد معاوية بن ابي سفيان «لو كان لعروة ولْد لأحببت أن اتزوج اليهم». ولكن هل صحيح انه لم يكن لعروة ولْد؟ هل صحيح انه لم تعد له سلالة تتواصل معه بنسب الفكرة الاولى للمساواة والحرية؟ اذاً ما نسمي كل هؤلاء المتمردين من شعراء وثوار اتوا من بعده حاملين الحلم نفسه وان بصيغ جديدة واكثر مواءمة لعصرها؟ ماذا نسمي كل تلك الحريات التحررية الاجتماعية التي عصفت بمفاصل التاريخ الحديث، ولمّا تزل؟ أليس هؤلاء بالفعل «اولاد» هذا الشاعر الذي كان يخاطب قدر الطبخ السوداء مكنياً اياها ب«يا أم بيضاء»؟!