كل من يعرف خفايا وكواليس صناعة القرار الرئاسي في أمريكا (أقوى دولة في العالم وقطب صناعة القرار الدولي) يعلم أن الصانع الفعلي للقرار الأمريكي ليس الرئيس الأمريكي إنما مراكز ما تسمى (Think tank) وترجمتها الحرفية هي (خزان التفكير) وترجمتها بالمضمون (مركز الدراسات والأبحاث المساعدة لصناع القرار)، ووجب إيراد الترجمة الحرفية للدلالة على أن تلك المراكز البحثية لا تكتفي فقط بجمع البيانات والمعلومات وإصدار دراسات أكاديمية بناء عليها، إنما تقوم بما هو أكثر من ذلك؛ وهو التفكير الخلاق المعني بصنع رؤية مستقبلية واستراتيجيات وتوجهات وسياسات ريادية لمساعدة من هم في مناصب صنع القرار على اتخاذ قرار رشيد وتبني رؤية ملهمة مبنية على أبحاث ودراسات، فالقرار بات صناعة وليس منصبا فقط، وهي صناعة تتطلب مصانع تولد الأفكار المدعومة بمعطيات الواقع الحقيقي، حتى أنها باتت تعتبر من مؤسسات المجتمع المدني الأساسية، كما أنها تعتبر من أذرع جماعات الضغط (اللوبيات) المعنية بالتأثير على صناع القرار المحلي والخارجي، وبعضها حكومي وبعضها الآخر أهلي لكن غير ربحي كالتي تمول بالأوقاف، وبعضها ربحي يتلقى مقابلا ماليا على دراساته وتفكير باحثيه ومفكريه، وقد تكون الدراسات الموجهة لصانع القرار سرية أو علنية وبعضها محايد وبعضها الآخر غير محايد وإن زعم الحيادية، وفي بعض الأحيان قد تستعين الإدارة الحكومية ببعض من أعد رؤية ودراسة استراتيجية ريادية في مركز أبحاث ما وتوكل إليهم المناصب لكي يحققوا رؤيتهم كما حدث مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن، فنحن في عصر باتت فيها النظريات والمعطيات تفوق قدرة الفرد على الإحاطة بها ومعالجتها فكريا لوحده، مهما بلغت درجة حرصه وتفانيه، ولهذا حتى في مجال الفتوى الدينية أنشئت مجامع فقهية لإصدار فتاوى جماعية، وحسب البيانات المنشورة فعدد مراكز الأبحاث في السعودية تقريبا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولم يدخل التصنيف العالمي منها سوى مركز واحد فقط وكان ترتيبه متأخرا جدا وهو بالمرتبة 125 (صحيفة «عكاظ»، 5/ أبريل/ 2015) ولا يبدو أنه يسد الحاجة بالمرة، ولهذا دعت الحاجة للاستعانة بمراكز أبحاث ودراسات أجنبية، بينما لدى الدول الأخرى عشرات المراكز البحثية التي تساعد صناع القرار في كافة المجالات، وفي أمريكا حوالي ألفي مركز بحثي تساعد صناع القرار، وهذا النقص الفادح لدينا في مراكز الأبحاث والدراسات والفكر الاستراتيجي يعتبر أهم معرقلات تحقيق قفزات تنموية وحضارية، والحراك الحالي النشط في السعودية سلط الأضواء على هذا النقص الكمي والنوعي الفادح.