من أهم معالم عصر النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ذلك الجانب السياسي الذي أعاد تشكيل أسس الشرعية السياسية لأنظمة الحكم في المجتمعات الأوروبية، لتقترب أكثر من المنهج العلمي (الشٓكي الكمي)، الذي ساد أدبيات العلوم الطبيعية، وكان سببا في نهوض أوربا العلمي والصناعي والحضاري، الممتد ليومنا هذا. التنمية في أوربا، منذ عصر النهضة، قامت على ركيزتين أساسيتين، سياسية واقتصادية معا. بينما مجتمعات الشرق ركزت على الجانب الاقتصادي وأهملت الجانب السياسي، حتى أضحت الدولة عاجزة عن القيام بالكثير من مهامها ومسؤولياتها، نظرا لفشل نظامها السياسي في إدارة موارد المجتمع بالفاعلية والكفاءة والشفافية والمسؤولية اللازمة. من جانب آخر، بينما كانت العلمانية، بمعنى: فصل ما هو زمني (السياسة والدولة) وما هو ديني (عقيدة وممارسة)، هي امتداد لثقافة غربية تجد جذورها ليس فقط في العهد الجديد (الإنجيل)، بل في التراث والممارسة السياسية في المجتمعات الأوربية، في الحضارة اليونانية القديمة، التي من أهم معالمها: محاولة إبعاد شرعية أنظمة الحكم عن الأسس الدينية والأساطير الغيبية، وربطها مباشرة بإمكانات وخصائص الإنسان البشرية. فالسياسة عند الإغريق الأقدمين شأن إنساني مطلق لا دخل للقوى الغيبية فيه. بالتبعية: الثقافة والممارسة السياسية، في المجتمعات الأوروبية تجد جذورها الفلسفية، في فكر أرسطو.. وتجد تجربتها الأولى في حركة وقيم الديمقراطية المباشرة التي كانت تعيشها أثينا، في القرن الخامس قبل الميلاد، وليس حصريا، في تراث العلمانية الجديد في أفكار فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السابع عشر.. ولا في إرث الثورة الفرنسية، وقبل ذلك في الصراع بين الكنيسة والتاج من جانب، والبرلمان من جانب آخر، في بريطانيا. ساعد في هذا الانفصال بين ما هو زمني وما هو ديني في الثقافة والممارسة السياسية في المجتمعات الأوربية، زهد المسيحية في العمل السياسي والابتعاد عن السلطة، وهذا راجع للمقولة التي نسبت للسيد المسيح عليه السلام: أعطِ ما لقيصر لقيصر.. وأعطِ ما لله لله، وهذا استمر حتى بعد اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، وسقوط روما في 410 ميلادية. بينما الأمر مختلف تماما في مجتمعات الشرق المسلمة. منذ بعثة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام حيث أبدى اهتماما مباشرا بالشأن السياسي. وكان هذا هو أس الخلاف بينه عليه الصلاة والسلام وقريش، التي خافت على وضعها القيادي المتميز ومكانة مكة السياسية بين العرب. الإسلام جاء بنظام اجتماعي سياسي تتكامل فيه مسؤوليات الحكم ووظائفه، ليس ما يتعلق بالمسلمين، فحسب... بل، أيضا احتواء الأقليات غير المسلمة، في مجتمع سياسي متكافل، يقوم أساسا على احترام كرامة الإنسان وحقوقه. وكانت صحيفة المدينة، التي حددت بوضوح جلي مسؤولية السلطة السياسية وحقوق المجتمع المسلم الذي تحكمه، وكذا العلاقة مع اليهود والقبائل التي لم تدخل الإسلام بعد، تعتبر أول دستور مكتوب، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، عرفته المجتمعات البشرية. صحيح، طوال تاريخ الدولة الإسلامية حصلت تجاوزات تنال من شرعية الخلفية الدينية للسلطة السياسية في المجتمعات الإسلامية، إلا أن الصحيح أيضا: احتفاظ الدين بالمكانة السياسية المرموقة في المجتمعات الإسلامية، التي كانت كثيرا ما تستدعى أوقات الأزمات السياسية والفتن الدينية. وما المحن التي كابدها علماء أجلاء مثل الإمام أحمد ابن حنبل (164-241 ه) وشيخ الاسلام أحمد ابن تيمية (661 - 728ه).. والمكانة السياسية المرموقة التي خبرها علماء أفذاذ مثل العز بن عبدالسلام (577 - 660 ه)، إلا شكل من أشكال هذا التناغم بين الدين والسياسة في الثقافة والممارسة السياسية في تاريخ المجتمعات الإسلامية. طوال تاريخ الحضارة الإسلامية كان الناس يلجأون إلى علماء الدين، ليس فقط طلبا للفتاوى الدينية، بل أيضا لاستطلاع موقفهم ورأيهم في الأوضاع السياسية. وعندما يتكامل منطق الدولة مع تعاليم ومقاصد الشريعة، تحصل الإنجازات الضخمة.. وتتحقق الانتصارات الحاسمة... حدث هذا في عهد الخليفة الأموي المجدد عمر بن عبدالعزيز (61-101ه).. وحصل هذا في عهد الحكام الفاتحين البارزين في التاريخ الإسلامي من أمثال الظاهر بيبرس (658-676ه).. وصلاح الدين الأيوبي (532-589ه)، والخليفة العثماني محمد الفاتح (1432-1481م)... وحديثا: كان الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، من أمثال هؤلاء الزعماء العرب الأفذاذ الذين أسسوا شرعية حكمهم على هذا التكامل المبدع بين السياسة وتعاليم الدين. أما ما يتردد في بعض أدبيات ومواقف وممارسات من يطلقون على أنفسهم بالعلمانيين والليبراليين، فإن الكثيرين منهم، رغم ثقافتهم، إلا أنهم لا يدركون أو لنقل يتجاهلون هذا الفرق الشاسع بين الثقافتين الغربية والشرقية المسلمة، التي ينتج عنهما شكلان مختلفان من أشكال التعامل مع المشكلة السياسية. بل هم يتنكرون لقيم الليبرالية، ذاتها، التي ينادون بها! في التحليل الأخير: لا يمكن، بأي حال من الأحوال، إنكار متغير الدين في المجتمعات الإسلامية، لتجذره عميقا في ضمير الناس، لدرجة اعتباره متغير أساس لشرعية السلطة والحكم في المجتمعات الإسلامية، له علاقة مباشرة بخيارات الناس السياسية. وإن كان متغير الدين تتوفر فيه احتمالية استخدامه لأغراض سياسية غير بريئة وغير حميدة، حتى من قبل أولئك الذين يمانعون تدخل الدين في السياسة، سواء كانوا في السلطة أو خارجها. حل المشكلة السياسية في المجتمعات الإسلامية لا يكون بتعسف فرض أسطورة العلمانية، دون الالتزام بقيم الليبرالية الحقة، بل باحترام واقع تجذر الدين في ضمير الناس، الذي لا يمكن تجاهل دوره في تحديد خياراتهم السياسية. الأجدى: تقنين وتنظيم متغير الدين في العمل السياسي، في المجتمعات الإسلامية، من أجل إقامة مجتمع سياسي يؤمن بالتداول السلمي للسلطة يقوم أساسا على احترام خيارات الناس السياسية وإرادتهم العامة، دون محاولة استفزازهم في عقائدهم الدينية. فالبديل، يستحيل تقدير أو استشراف نتائجه المرعبة.