العاطفة المتوقدة الدافعة بألفاظ المشاعر في قوالبها الشعرية، لا تقف عند مجرد الرصف لبناء التفعيلة فحسب. ويخطئ من يجعل معيار الشعرية قائما على مجرد إيغال الكلمات في الغموض، أو اجتراحها تعقيد التركيب، أو مسحها برؤية فلسفية. ولا غرو أن الشاعر المنطلق من وجدانه، سيشعل عواطف متلقي شعره، ويبرم معه عقدا يبدأ منذ أول بيت. وإذا ما فتشنا في تراثنا الشعري فإننا نجد الأمثلة كثيرة متعددة. ولا يقف هذا التوصيف عند حد زمني معين، فإن الشاعر يرث تقاليده ممن سبقه، ويسير على نهج من ابتدع في أثره، ولا يعيبهم فلا يسعهم غير ذلك؛ إنما البراعة في تشكيل اللفظ المتقد بالعاطفة. وإذا ما فتشنا بين شعرائنا المعاصرين، فإننا نلمح اسما يسطع بقوة في سماء التعبير الوجداني. إنه الشاعر المكي فاروق بنجر، الذي لا أجامله بقولي إن إبداعه يستحق دراسة أكاديمية تقف عند سر مكنونه الشعري. فاستمع له عندما يقول: شٓيءٌ تَعابَقَ لي في مُهْجَةٍ رَعَشَتْ لَمْحًا مِنَ الوَردِ أنِّي سَوفَ ألقاكِ إنْ غِبْتِ بَعْضُ كَلامٍ بَيْنَنَا لَهَفٌ يُدنِيكِ كالشِّعرِ إن الوعي بوجدان الشعر انعكس على توصيف الشعور نفسه، وما أن يعي الشاعر هذا حتى تراه ينعكس في تمثلاته الشعرية أولا. فيقول أيضا: مَنْ يا ترَى تَهْفو إليهِ مَنابرُ ؟ كُلُّ الأماكِنِ أنتَ فيها الشاعرُ ! ولا يجد المتلقي غضاضة في فهم المعنى بانتهاء آخر تفعيلاته دون إعادة مطالعة. وهذه السلاسة في ظني أنها أهم ملمح أسلوبي امتاز به بنجر إلى جانب تشكيله الشعري بنثر تفعيلاته على السطر، والذي يأتي مبنيا على الموقف الشعوري، فهو ينتقل من عالم الخيال إلى العوالم الممكنة التي يمكن أن تحقق انحباس نفَسه. يقول في نص بعنوان «فتنة»: ويَجْهَلُ مَنْ تُدنينَهُمْ مِنكِ لَمْسَةً تُعانقُهُمْ بالقَلبِ في شُرفَةِ العِطْرِ تَجيشُ بِهِمْ سُخْرِيَّةٌ مِنْ غَضاضَةٍ تَخِفُّ بمَهْدِ الشمسِ في فتنَةِ الجَمْرِ وحَظُّكِ في بيضِ النَّوايا جَفاوَةٌ مِنَ القَومِ في السِّرِّ الخَفيضِ وفي الجَهْرِ وحَسْبُكِ مِنْ لُطْفِ البَوادِرِ لَفْتَةٌ سَماوِيَّةٌ مِنْ مَرفإِ النورِ والطُّهْرِ ! وتأمل قوله: أيْنَ عَهْدُ الهَوَى كَنَهْرِ هَديلٍ في هُنَيْهاتِ لَمْحَةٍ مِنْ ظِلالِ ؟ كَسَماءٍ حَميمَةٍ يَتشَذَّى في بَشاشاتِها صَباحُ ابْتِهالِ ؟!