من حين لآخر أشارك وبجهود متواضعة في البرامج التدريبية لمنظمات القطاع العام أو عندما تستعين بي بعض القطاعات الصحية الخاصة للقيام بتصميم بعض البرامج لها أو تدريب بعض منسوبيها.. وقد كان ولا يزال يشد انتباهي وبشكل كبير اعتقاد بعض الموظفين المتدربين أن ما أطرحه في بعض الأحيان هو ضرب من الخيال البعيد عن واقع العمل أو أنني طاعن في المثالية القيادية.. وقد تبين لي ذلك من خلال النقاش الذي يطرح عقب كل محاضرة أو من خلال نموذج التقييم الذي أستخدمه لتقييم قدراتي على إيصال المعلومة للمتدرب بالشكل المناسب.. وقد تبين لي لاحقا أن هذا النوع من التفكير ينتشر بين الموظفين الذين يعملون في مرافق لا يؤمن رؤساؤهم المباشرون بفلسفة التفويض والمشاركة في اتخاذ القرار وإبداء الرأي والنقد البناء للأوضاع داخل المرفق.. الأمر الذي أدى إلى فقدان هؤلاء الموظفين الثقة في ذاتهم وفي تطور العلم ككل.. ومما لا شك فيه أن أداء الفرد في أي مرفق يعتمد على عدة عوامل، من بينها بل ومن أهمها إحساسه بالاستقرار النفسي والثقة الذاتية وعلاقته مع الآخرين، وهذه الثقة تستند في أساسها إلى العمل تحت قيادة مثقفة مهنيا ومتطورة وذات ثقل علمي وأفق معرفي كبير في التخصص.. تملك القدرة على خلق بيئة مهنية راقية ولديها الإمكانية على التأثير الواضح والفعال على الخط السلوكي للفرد وتطوير العاملين.. يحترمها العاملون على مختلف المستويات ويثقون بها لثقلها العلمي والمهني وليس للصلاحيات المكتسبة من الوظيفة.. لديها فلسفة وأسلوب إداري وقيادي حضاري عند التعامل مع الأعضاء العاملين في المرفق.. تبين لي أيضا أن تلك الفئة من الموظفين المرتبكة التفكير هي في الواقع ضحية لقيادة جاهلة متسلطة ضعيفة الإمكانيات الفردية ما زالت تؤمن في القرن الواحد والعشرين أن الولاء للفرد المدير وليس للمؤسسة وتتبع أسلوب الإدارة بالإرهاب.. تشيع بين الموظفين الخوف بل وتجعله سمة من سماتها وخصائصها وإحدى الوسائل المتبعة لإحكام قبضتها على المرفق، بحيث لا تترك هذه الإدارة أي فرصة للعاملين لطرح آرائهم أو إبداء اقتراحاتهم، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام الثقة بين العاملين والإدارة العليا.. والخوف هنا ليس بسبب عدم الإنجاز أو عدم الكفاءة والفعالية في الأداء بل هو الخوف من الإجراءات التأديبية نتيجة سلوك معين لا يرضي القيادة المهزوزة، أو تداخل الموظف في ما لا يعنيه حسب رأي الإدارة وهذا النوع من القيادات المحدودة الإمكانيات والمفاهيم القيادية تتحول إلى أداة قمع لا تفكر في التطور والابتكار والتحفيز قدر اهتمامها ببسط النفوذ والسيطرة على تصرف الموظف.. في هذا الصدد قامت باحثة أميركية اسمها «بات برناتينتين» بتجميع أكثر من 94 رأي مدير في وظائف إشرافية رفيعة المستوى في كتابها «عندما يتوقف الكناري عن الغناء»، الحديث في هذا الكتاب يدور حول كيف تصنع موظفا إيجابيا مبتكرا صاحب رأي بناء يستطيع التغريد على رأي «بات برناتينتين» والتحليق بأفكاره الخلاقة إلى أعلى لوضع مؤسسته في منطقة متميزة بعيدة عن المنافسة القاتلة صنف «دنيس بريتون وكريستوفر لانجينث» مؤلفا كتاب «جذور الاقتصاد»، هذا الكتاب بأنه أفضل ما كتب في الحوافز، حيث يركز الكتاب على أهمية منح الموظف فرصة التعبير وتحفيزه عن طريق تبني اقتراحاته وآرائه، وجعلها مكان التنفيذ ومشاركته في وضع الخطط القصيرة والطويلة الأمد، هذا الكتاب يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يؤكد على أهمية استثمار المناخ الديمقراطي في خلق فريق يصنع المعجزات، لا بد أن تهيئ نفسك أيها المدير وأنت تقرأ هذا الكتاب لآراء قد تهزك من الداخل، فبعض الآراء المطروحة في هذا الكتاب هي حوار جريء وتعرية مباشرة لإدارة الإرهاب، فإذا كنت مديرا لا تقرأ في مجالك ولا تتطور في مهنتك ولا تخرج من مكتبك إلا لقضاء الحاجة وتعتقد أن نشر العيون في المصلحة والآذان في الممرات هو أفضل ما تستطيع فعله ولا زلت في هذا القرن تؤمن بأن الولاء يفترض أن يكون لك وليس للمؤسسة فلا تقرأ هذا الكتاب، بل وإنني أنصحك بأبعد من ذلك عليك بتربية كلب.. الكلاب أوفياء لأصحابها !!