لم يكن للثقافة مشروع خارج الجماعة وللصوت صوت خارج الصدى ولكن الإنسان المفكر إبراهيم البليهي يبوح لنا ويقول إن قابلية العقل البشري للتحجر أقوى من قابليته للتطور، التحجر تلقائي فهو الأصل، إنه لا يحتاج إلى أي جهد، أما التطور فهو يشبه عمليات التصنيع. البليهي يخص «عكاظ» بالحديث عن مشروعه القادم، إذ يعمل في مشروع فكري واسع سيصدر في مجموعة كتب حول العقل البشري، والتطور الحضاري، وتلقائية التحجر الثقافي، والعمليات العسيرة لفتح الثقافات المنغلقة، وتحريك العقول المتحجرة. فإلى نص الحوار: ما الذي دفعك للبدء بمشروع كهذا ؟ انشغالي بالفكر ليس اختيارا، بل الأفكار تفرض نفسها فرضا، فقد عشت منشغل الذهن بالقضايا الإنسانية. فغرقت في التأمل والبحث والاستقصاء وقرأت في كل مجالات الإبداع الفلسفي والعلمي والأدبي والتاريخي، وقارنت بين مستوى الرواد والمبدعين وبين ما تعيشه البشرية من حروب وصراعات وعجز عن التفاهم، واقتنعت بأن الرواد خارج كل الأنساق وأن الإنسانية مازالت بدائية من الناحية الأخلاقية، فهي بدلا من صراع الأنياب طورت وسائل القتل والتدمير. إنها مازالت تحسم خلافاتها بواسطة القوة، وهذا يدل على أن الجنس البشري قد طور أدوات الصراع ووسائل الفتك ومعدات التدمير، لكنه لم يطور أخلاقه.. لذلك أرى أن البشرية بوضعها الحالي تمثل بروفة أو مسودة سيئة الإعداد لما يجب أن يكون عليه الإنسان المتحضر. ما الذي يميز مشروعك عما هو موجود من أطروحات في الكتب والدراسات ؟ مشروعي الفكري ليس امتدادا لأي مشروع فكري سابق، فهو لا ينطلق من معضلة العقل العربي، وإنما يتأسس على نظرية عن العقل البشري في عمومه، حتى في أشد المجتمعات تقدما وأكثرها ازدهارا. فقد توصلت إلى أن العقل البشري رغم كل العلوم ورغم كل مظاهر الحضارة، مازال غارفا في الأوهام والخرافات والتفكير البدائي والعنجهية الوحشية، فقد انحصر تأثير العلوم في تطوير الأدوات والوسائل والتأهيل للأعمال المهنية، فقد يكون الشخص طبيبا ماهرا أو مهندسا حاذقا، لكنه خارج عمله المهني يكون خرافيا.. لقد طور أفرادٌ معدودون استثنائيون خلال العصور إمكانات البشرية تطويرا هائلا، أما عموم البشر فهم أنماط من القطيع، فالتصورات والقيم وأنماط السلوك مازالت محكومة بثقافات ما قبل ظهور العلوم الممحصة. إن البشرية بوضعها الحالي تعيش خللا مدمرا، فهي فكريا وأخلاقيا ليست بمستوى ما تملكه من إمكانات هائلة ابتكرها أفراد استثنائيون. ما الذي تستند إليه في هذه الأطروحات ؟ المشروعات الفكرية ليست بحثا وإنما هي رؤى فلسفية، فالرؤية تنبثق أولا ثم يجري الاستقصاء لمعرفة ما قيل حول الموضوعات مجال الاهتمام. فالرؤية هي بنت الاهتمام القوي المستقر، إنها نتاج المعاناة والتأمل والاستقصاء في كل الاتجاهات، والتعرف على كل الرؤى وتتبع كل الدروب. فالعمل مرهق غاية الإرهاق إنه ثمرة البحث في كل العلوم والفلسفات والتجارب والمقارنات، فالمشروع يستند إلى كل ما أمكن الاطلاع عليه من العلوم والفلسفات. فأنا أعيش بين الكتب وعندي مكتبة زاخرة من كل الإبداعات التي صنعت واقعا عظيما، مازالت البشرية عاجزة عن استيعابه إلا كشتات من المعلومات. ما الفائدة التي ترجوها من هذا المشروع أو بمعنى أدق ما هو الهدف منه؟ أحاول الإسهام في تحرير العقل البشري، بكشف نقائصه المدمرة وإبراز الإمكانات العظيمة لتطوير هذا العقل ليكون بالمستوى الذي يليق بالإنسان المتحضر. إن الكثيرين يعتقدون أن الإنسانية هي الآن في قمة التحضر، بينما أنا أعتقد أن البشرية عموما تعيش في حضيض أوحال التخلف. فتطوير الوسائل هو تطوير للأنياب والعضلات والقوة فقط، بينما المهم هو تحرير العقول من أوهامها وأحقادها ورعونتها وعنترياتها وعجزها عن التفاهم.