علل المثقف إبراهيم البليهي السبب في ضآلة دور التعليم في المجتمعات المتخلفة بأن كل ثقافة تكون محصَّنة ضد الثقافات المغايرة، وأنها تملك جهازا مناعيّا شديد التحفز، مؤكدا أن ذلك هو السبب في ضآلة دور الفكر العلمي في كل الثقافات على مستوى العالم. وشدد على حاجة العالم إلى قيادات خارقة تتناسب حكمتهم وقدراتهم وموضوعيتهم وإنسانيتهم مع الإنجازات والإمكانات الإنسانية الهائلة في العلوم والتقنيات وتتلاءم مع القرارات الخطيرة المفْصلية التي يتخذونها. وقال البليهي في حوار مع «الحياة» إن الإنسانية تعيش «معضلة كبرى» فهي تملك قدرات هائلة للفعل والإنجاز وكذلك للعدوان والتدمير. إلى نص الحوار. لماذا تأخرتَ في إصدار مشروعك الفكري الذي وعدتَ به منذ سنوات طويلة؟ - تأخَّرْتُ لأنني مولع بالاستقصاء الشديد والتدقيق المفْرط، وأريد ألا أنشر إلا ما اقتنعت بأنه إضافة حقيقية، ثم إنني لم أحجب أفكاري، بل إنني أكتب في انتظام منذ أكثر من ربع قرن، فأفكاري باتت معروفة لمن يهتمون بالمتابعة. ليس فقط عن طريق المقالات، وإنما بواسطة اللقاءات التلفزيونية و«تويتر» و«فيسبوك» والمحاضرات و«يوتيوب»، كما أن كتبي المنشورة ومنها «بنية التخلف» و»حصون التخلف» و «وأد مقومات الإبداع»، تتضمن محاور الأفكار الرئيسة التي تستغرق اهتمامي وشغلتني خلال عمري كله حتى وإن جاءت متفرقة ولا تعكس الرؤية بتكاملها بعكس المشروع الذي سيأتي بشكل منظَّم، فكل كتاب يتناول نظرية أو فكرة محورية ويقدِّم لها الشواهد الداعمة والأمثلة الشارحة. إنني لا أعتبر النشر هدفاً في ذاته، فالتسرع في النشر خطأ استراتيجي يقع فيه الكثيرون، فلو أنجز الإنسان كتاباً واحداً مميزاً في عمره كله لكان أفضل من أن ينشر مئة كتاب لا تضيف جديداً. إنني مصمم على أن أنجز عملاً يحمل الكثير من الأفكار التأسيسية والرؤى الجديدة التي تستهدف كشف عوامل التخلف وإبراز عوامل التحضُّر. إن المهم هو إنضاج المشروع وتقديم حقائق كافية بقدر الإمكان تدعم النتائج التي توصلت إليها، فالعالم لا تنقصه الكتب فلا بد من أن يكون المشروع إضافة حقيقية، ثم إن المشروع الفكري الذي أعمل فيه طول وقتي شديد الاتساع والعمق والطموح ويتناول قضايا تأسيسية كبرى ويقوم على نظريات عن التغيير الجذري لمفهوم العقل وعن قابليات الإنسان المفتوحة المرنة قبل التشكل وعن انغلاق وتصلب هذه القابليات بعد التكوين. إن المشروع يقدم رؤية عن المجتمعات والثقافات والحضارات وطبيعة الحقيقة وأولوية الوهم وتلقائية النقائص البشرية، كما يعالج قضايا الفكر والتعليم والعلم والعمل والتنمية والقيادة والانقياد، فنظريتي الأساسية عن أن «الإنسان كائن تلقائي» استغرقتْ مني جهداً مرهقاً؛ لأنني أحاول تدعيمها من كل العلوم بقدر الإمكان، فلم أترك مجالاً من مجالات الفكر أو العلم أو الفن أو التاريخ أو السِّيَر أو التجارب العامة أو الفردية إلا ونقَّبتُ فيه بحثاً عن أي كشف أو قول أو حقيقة أو فكرة تدعم النظرية؛ لأنني مقتنع بأنه يترتب على قبول نظرية أن الإنسان كائن تلقائي نتائج عظيمة على المستويات الفردية والأسرية والاجتماعية والعالمية. تتفرع عن نظرية «التلقائية» نظرية أخرى تؤكد أن «العقل يصوغه ويحتله الأسبق إليه» وينشأ عن ذلك حقيقة أن الثقافات كيانات متمايزة ومتدابرة ومتصارعة، وأرى أن ردود الفعل الغاضبة التي قوبلت بها نظرية هنتنجتون عن صراع الثقافات هي ردود متسرعة وغير علمية إن الثقافات غير مهيأة لتبادل الفهم بل كل ثقافة تكون محصَّنة ضد الثقافات المغايرة فكل ثقافة تملك جهازاً مناعيّاً شديد التحفز، يجعلها ترفض من دون أي بحث أو تحقق بل ترفض بشكل تلقائي كل ما يختلف عن مكوِّناتها المتوارثة، وهذا هو السبب الأول لضآلة دور التعليم في المجتمعات المتخلفة، كما أنه سبب ضآلة دور الفكر العلمي في كل الثقافات على مستوى العالم، حيث انحصر تأثير العلوم في الجوانب العملية والمهنية، أما طرائق التفكير عند مختلف الشعوب والأمم فما زالت محكومة بالتناسل الثقافي التلقائي ومن هنا جاء استمرار الأحقاد التاريخية بين الأمم والطوائف فبقوا متحفزين دائماً للمواجهات العنيفة بعيداً عن العلم الكاشف ومنطق العقل الفاحص. إن هذا التحجُّر البشري على المستوى الجماهيري حاصل ومستمر في كل المجتمعات حتى في المجتمعات المزدهرة، فالجهل المركَّب مستحكم على المستوى البشري كله على رغم كل الأفكار العظيمة المفنِّدة وعلى رغم كل الفتوحات العلمية الكاشفة وعلى رغم كل التغيرات النوعية الطارئة على الحياة الإنسانية، لكن تأثيرها الهائل بقي محصوراً في المجالات المهنية والعملية وفي مجال التقنيات أما طرائق التفكير فلم يطرأ عليها تغيير جذري يتناسب مع فتوحات العلوم وأضواء الأفكار وضخامة الإمكانات فالمنعتقون من البرمجات الثقافية هم فئة قليلة جداً في كل الأمم وعلى مستوى العالم كله بما في ذلك المجتمعات الأكثر ازدهاراً، فعموم الناس في المجتمعات المزدهرة محمولون على قاطرة عامة مزدهرة من غير أن يدركوا أسباب ازدهارهم أو عوامل حركة قاطرتهم، حيث يوجد هُوَّة عميقة واسعة بين الأفكار الخلاقة والفهم العام وكذلك بين أفكار القلة والواقع السائد في كل مكان. هل هذه الرؤية هي السبب في تأكيدك الدائم على عدم التناسب بين الإمكانات الهائلة التي صارت بحوزة الإنسانية وضآلة حكمتها وفقدان القيادة العالمية المتلائمة معها؟ - نعم إن الإنسانية تعيش معضلة كبرى فهي تملك قدرات هائلة للفعل والإنجاز وكذلك للعدوان والتدمير، فالقيادة العالمية تفتقر إلى الحكمة التي تتلاءم مع مسؤولياتها العظيمة الضخمة. إن القيادات العالمية ضعيفة غاية الضعف قياساً بالأفكار والعلوم والإمكانات والوسائل التي صارت تحت تصرفها، ولو بقيتْ وسائل الفتك محصورة في الدول التي تتصرف وفق رؤية براجماتية تحْضر فيها حسابات الربح والخسارة لكانت المعضلة أخف وإن كان الأسلم أن تبقى وسائل التدمير محصورة لدى الذين تطورت ثقافاتهم ومؤسساتهم وأنظمتهم، حيث تكون المعضلة ممكنة الكبح لكنَّ المزدهرين ثقافيّا وفَّروا للجميع إمكانات ووسائل هائلة للعدوان والتدمير، وقد صارت هذه الإمكانات والوسائل الفتاكة متاحة للذين مازال تفكيرهم موغلاً في التحجُّر والبدائية والمفاصَلَة، ويعتمدون منطق القوة والإخضاع ويستبعدون منطق التفاهم والإقناع، وليسوا ملتزمين بأي معايير إنسانية أو ارتباطات دولية، وإنما يتصرفون ويقتلون ويدمرون وفق رؤية أحادية شديدة الضيق والانغلاق. إن إمكانات ووسائل العنف والإرهاب والتدمير لم تعد محصورة في الدول، كما كانت خلال القرون، بل باتت متاحة للأفراد والجماعات والتنظيمات ومن هنا استحالت السيطرة على الأوضاع فالصعوبات باتت عسيرة غاية العُسْر، فالدنيا صارت مشحونة بالجماعات التي نشأ أفرادها على مقْت الحياة، والأحياء غارقون في دائرة تصورية ضيقة ومغلقة تختلف جذريّاً عن التصورات والقيم العقلانية. إنهم يمقتون الحضارة والمتحضرين فيندفعون إلى الموت ويقتلون الناس جماعيّاً من دون أي إحساس بالخطأ أو الذنب أو تأنيب الضمير، بل تزداد غبطتهم بمقدار ما يزداد عدد الجثث والأرواح المزهَقة، فليس أخطر من الذين يتربون على كُرْه الحياة ويستعجلون الموت ويتوهمون أنهم أهل الله وأحبَّاؤه. والمهم هو التأكيد بأن العالم يعيش أزمة حادة في القيادة العالمية، فالعلوم والتقنيات جعلت مئات الملايين من الأفراد على المستوى العالمي يملكون على المستويات المهنية والعملية والإنتاجية والإبداعية فُرَصاً مفتوحة ومعارف دقيقة ومهارات عالية وإمكانات متكاملة وتسهيلات وافرة، تؤدي في مجموعها إلى تطورات مذهلة، لكن على المستوى القيادي العالمي يوجد خلل مرعب، ويكفي أن تتصور وطناً عظيماً كالولايات المتحدة الأميركية بكل إمكاناتها الهائلة وتأثيرها العالمي الحاسم تؤول قيادتها لفرد مثل بوش الابن. صحيح أنه يَحْكُم بواسطة مؤسسات ومعه فريق من المستشارين والمعاونين، لكنه يبقى هو صاحب القرار، كما أن المؤسسات ذاتها محكومة بقيادات فردية لا تتناسب حكمتهم مع القرارات الخطيرة المفْصلية التي يتخذونها إن المعضلة، تبدو وكأنها غير قابلة للحل؛ لأن التطور الهائل في الإمكانات الإنسانية يتطلب اجتماع حكمة آلاف العقول المميزة في عقل واحد جامع، وهذا محال، فكل فرد له بنية ذهنية ووجدانية مختلفة عن كل الآخرين وهذه الاختلافات الفردية في التصورات تجعل التبادل التام للأفكار والرؤى غير ممكن وبسبب ذلك فإن إمكان اكتساب حكمة خارقة هي أشبه بالمستحيل وحتى لو وُجد عقل خارق في حكمته فلن يفهمه الآخرون ولن يستجيبوا له، ومن هنا تتفاقم أزمة القيادة العالمية، فالعالم بحاجة إلى قيادات خارقة تتناسب حكمتهم وقدراتهم وموضوعيتهم وإنسانيتهم مع الإنجازات والإمكانات الإنسانية الهائلة في العلوم والتقنيات وتتلاءم مع القرارات الخطيرة المفْصلية التي يتخذونها، ولكن تحقيق هذا المطلب الملح مازال من أشد المحالات بُعْداً عن التحقُّق لقد تناولت هذه المعضلة تفصيلاً في كتابي «القيادة والانقياد». طالما أنه يستحيل توافر قيادات عالمية ذات حكمة خارقة.. فما الفائدة من طرحها كقضية للنقاش؟ - إن إبراز المعضلة ووضعها موضع البحث والنقاش والدراسة والتأمل قد يفتح من الآفاق والحلول ما لا يخطر على بال، ومن ناحية أخرى فإن إدراك هذا الفارق الهائل بين الإمكانات الهائلة والحكمة الضئيلة المتوافرة سوف يدفع إلى إيجاد طرق ووسائل احتياطية تقلل من احتمالات الخطأ. وعموماً فإن إبراز المعضلة ووضعها موضع التأمل تترتب عليهما نتائج عظيمة. أنت تكرر بأن الإنسان كائن ثقافي محكوم بمنظومة القيم والاهتمامات التي تشبَّع وتبَرْمَج بها تلقائيّا، وتؤكد ضآلة دور التعليم في التغيير، سواء على مستوى الأفراد أم المجتمعات أو على المستوى الإنساني بأجمعه.. فما الحل إذنْ؟ - أود أن أبيِّن أن هذه الرؤية عن التعليم وعن عقم التعلُّم اضطراراً ليست محصورة في مجتمع من دون آخر، فالإنسان كائن تلقائي، وبسبب ذلك أؤكد دائماً خصوبة التعلُّم اندفاعاً وعقم التعلُّم اضطراراً، فالتعليم لا يكون مجدياً إلا بقدر ما يحترم فردية الإنسان ويثير اهتمامه التلقائي، ولكنه يبقى عقيماً بقدر اعتماده على التلقين والإلزام، فبعد بحث طويل واستقصاء دقيق وتأمل عميق توصَّلْتُ إلى أن التعليم تابعٌ للواقع، فلا يمكن أن يُغَيِّره. إن التاريخ يؤكد أن التطور الحضاري أو التطور في أي مجال لا ينهض إلا على جناحي: الريادة الفردية الخارقة، والاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية. أما التعليم في أي مجتمع فهو محكوم بالثقافة السائدة وما من ثقافة تعلو على ذاتها، وإنما تكرر إنتاج هذه الذات كما ورثَتْها ما لم يحصل تحول جذري حاسم يغيِّر اتجاه السَّير، وهذا لا يمكن أن يحصل تلقائيّاً، وإذا حصل فإنه سوف يقابَل حتماً، بالرفض التلقائي العنيف، وبسبب ذلك استمر تخلف مجتمعات كثيرة في هذا العصر على رغم ما يمور به العالم من النماذج الجياشة والأفكار الخلاقة والممارسات الناجحة والعلوم الكاشفة والأدبيات المعينة والتقنيات المساعدة. أما الحل فيجب أن يكون شاملاً على المستويات المحلية والعالمية، فالعالم صار مترابطاً فلم يعد التخلف معضلة محلية لأي مجتمع، بل إن نتائج التخلف الفظيعة والمرعبة هي مثل الأوبئة الفتاكة تمتد إلى العالم كله، وهذا يستوجب أن يكون الاستنفار عالميّاً عن طريق تحويل المنظمات الدولية التي استغرقت في الشأن السياسي إلى منظمات ثقافية يكون اهتمامها تحرير العقل البشري من أحقاده وأوهامه ولوثاته المتوارثة. ولكن الغريب أن منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم التي يُفْتَرض فيها أن تعمل على إحداث تطورات ثقافية وتربوية في كل العالم انحصر دورها في المحافظة على الإرث الثقافي للأمم وإبقاء العقول متحجِّرة على هذا الإرث. لقد تأسَّسَتْ هذه المنظمة منذ البداية وفق رؤية خاطئة تستهدف تأكيد التمايزات الثقافية واستمرار انغلاقها بدلاً من أن يصير دورها هو فتح حصون هذه الثقافات ومحاولة المزاوجة بينها، فعند تأسيس هذه المنظمة الثقافية المهمة تنازعها اتجاهان: اتجاه يقوده العالم البريطاني جوليان هكسلي. واتجاه مضاد يقوده المفكر الفرنسي جاك ماريتان، وهو مفكر ذو ميول كاثوليكية قوية. وقد انتصر هذا الاتجاه النكوصي فصار هَمُّ «يونيسكو» هو تقديس الآثار والتركيز على بقاء الماضي بكل أوهامه ولوثاته، فإذا سمعوا أن لغة على وشك الانقراض هَبُّوا للنجدة واستنفار الجهود العالمية؛ لإبقائها حَيَّة فيبقى المتكلمون بها في عزلة عن العالم بدلاً من اندماجهم في حضارة العصر. الناس يتوهمون أن اجتياز مراحل التعليم يؤدي إلى سلامة التفكير أوضح الكاتب ابراهيم البليهي أن الناس يتوهَّمون بأن اجتياز مراحل التعليم «يؤدي تلقائيّاً إلى سلامة التفكير ورُشْد السلوك، فإذا بَدَرَ منه سلوك مغاير لهذا التصور استغربوا وتساءلوا: كيف يكون كذلك وهو متعلم؟ إن هذا يدل على الجهل بالطبيعة البشرية وقابليات الإنسان وعدم فهم الكيفية التي تتكوَّن بها تلقائيّاً البنية الذهنية والوجدانية والسلوكية لأي إنسان، فكل فرد يكون عقله محكوماً بالمعايير التي تبرمج بها في طفولته، أما السلوك فهو سلسلة من العادات التلقائية. إن التعليم في أي مجتمع هو تكريس وتعزيز وتنمية للواقع القائم، سواء أكان هذا الواقع متخلفاً أم كان مزدهراً، فلا يمكن أن يكون هدف التعليم هو تغيير الواقع، فكل واقع مدفوع تلقائيّاً لتعزيز وجوده وترسيخه، ولو أننا راجعنا مناهج ومواد وفلسفات ومقررات أي تعليم في أي مجتمع لظهر بوضوح أنها تأكيد وتعميق واستنفار لقيم واهتمامات الثقافة السائدة المتوارثة، فإذا كان المجتمع متحضِّراً ومنتجاً وفعالاً ومزدهراً ومشغولاً باهتمامات بانية فإن التعليم يعزز اتجاه التحضُّر والتنمية والفاعلية والازدهار والانشغالات البانية، أما إذا كان المجتمع متخلفاً فإن التعليم يعمق عوامل التخلف ويحشد النفوس ضد المغاير، فأية بيئة لا يمكن أن تُنتج ثماراً مغايرة لها، وإنما كل شيء نموه وثماره من جنسه. إن غياب هذه الحقيقة الأساسية أدى إلى إهدار أعمار الأجيال في تعليم لا يؤثِّر في بنياتهم الذهنية والوجدانية، ولا تَنتُج عنه أية فاعليات نوعية»، مشيراً إلى أن حركة أي مجتمع «تبقى محكومة بقيمه واهتماماته ومعاييره وتقاليده وبالعادات الذهنية والسلوكية التي يتبرمج بها الأفراد تلقائيّاً في طفولتهم فتتحكَّم بهم حتى مماتهم، كما أن اتجاه سير المجتمع يظل محكوماً باتجاه البداية، كاتجاه النهر إذا شق مجراه، فلا يتغيَّر إلا بجهد استثنائي يغير اتجاهه. وهكذا فإن اتجاه المجتمع يظل في تدفُّق تلقائي، وكذلك يبقى الأفراد محكومين بالبرمجة التلقائية مهما تعلموا إلا في حالات فردية استثنائية نادرة؛ لذلك نجد أن الدارسين من مختلف بلدان العالم يلتقون في الجامعات الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية أو الكندية أو الأسترالية أو غيرها، وقد أتوا من ثقافات ومجتمعات مختلفة، ويدرسون مناهج ومقررات متماثلة وينالون الشهادات نفسها، لكنهم يعودون لأوطانهم مختلفين كما كانوا قبل التقائهم، فالتعليم هو عتاد مهني فقط، أما البنيات الذهنية والوجدانية والتفضيلات والقيم والاهتمامات والولاءات فتبقى محكومة ببرمجة الطفولة، فالعقل يصوغه ويحتله الأسبق إليه».