انتشر في الآونة الأخيرة مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، لطفل لا يتجاوز - حسب تقديري- ربيعه الثامن، وظهر وهو ينادي على شخص يجلس داخل مركبة ولم يظهر في الفيديو، «يا فيصل .. يا فيصل»، ظل يكررها حتى رد عليه بعد وهلة من الصمت «إيش تبغى؟!»، وكان واضحا من صوته أنه شخص بالغ، ثم باغته الطفل بإجابة صادمة لم تكن في الحسبان..... تبعتها ضحكات وقهقهات إلى نهاية المقطع !! واعتقد أن غالبية من قرأ هذه المقدمة تعرّف على الفيديو، ويدرك المغزى، وربما شاهده عشرات المرات بسبب كثرة تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث حصد ملايين المشاهدات، بعد أن تم بث المشهد عبر مئات الفيديوهات على موقع اليوتيوب، بعضها حصد قرابة المليون مشاهدة، والبعض استنسخ المقطع وقام بتركيب المشاهد الساخرة عليه، كما حصد هاشتاق تلك الكلمة على موقع «تويتر» أكثر من 330 ألف تغريدة تدور حول هذا الفيديو، وأصبح وأمسى هذا المقطع وصورة الطفل حديث المجالس الافتراضية في قروبات الواتساب والتليجرام، وحسابات السناب شات والانستجرام وغيرها من وسائل التواصل، التي تداولته باعتباره مقطعا كوميديا ساخرا، بالرغم أنه في الحقيقة مفزع ويثير الاشمئزاز بما فيه من إيحاءات سيئة وحقيرة. ولعل من سخرية القدر، أن المسألة انعكست وأصبح الطفل هو من يتحرش بالكبير، وربما هذا ما جعل الأمر مجالا للسخرية والتندر، بعد أن انعكست قضية ظاهرة التحرش هذه المرة، والتي تشير الدراسات إلى ارتفاع نسبة التحرش بالأطفال في المملكة، حيث كشفت دراسة للأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود بكلية التربية وقسم علم النفس الدكتورة وفاء محمود، أن نسبة التحرش بالأطفال في المملكة مرتفعة، إذ يتعرض طفل واحد من بين أربعة أطفال لهذا الاعتداء، وبينت دراسة أخرى أعدتها منيرة عبد أوضحت فيها أن 49.23 % ممن هم في سن 14 من إجمالي عدد السكان تعرضوا للتحرش، فيما أشارت الباحثة آمال آل بشير إلى أن نسبة ضحايا التحرش للأطفال في المملكة تصل إلى 48 % في البنين، و51.2 % في البنات، وبينت أن المملكة تعد ثالث دولة في العالم تعرض أطفالها للتحرش. والمصيبة الكبرى، هي حجم التفاعل الكبير مع مثل هذه المقاطع المخلة، وهو ما بات يعطينا تصورا جديدا بأن التحرش بالأطفال الذي يعد من التابوهات في مجتمعاتنا العربية كلها وقبل ذلك من الكبائر التي حرمها الله عز وجل، أصبح الآن «دعابة» ومجالا للسخرية والتندر، بل ويستعرض علنا في الفضاء الإلكتروني دون تحفظ، ولم يعد يدار في الخفاء كما كان في الماضي كظاهرة خفية. ولكن مقطع الفيديو الذي شهر بالطفل وأساء إليه، فهو برمته جريمة «جنائية» وليست فقط مخالفة لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، فما شاهدناه هو استغلال لطفل قاصر وتصويره في مشهد مخزٍ يجرده من البراءة والفطرة، كما أنه من الواضح أن الفيديو مدبر مسبقا ومتعمد نشره في وسائل التواصل، وخاصة أن الطفل ظهر مجددا في عدة مقاطع أخرى، وتم تصويره وهو يردد ذات العبارة التي اشتهر ووصم بها، والتي يُقصد بها أنه يتحرش بالشخص الذي أمامه. كما أن كل من تداول هذه المقاطع وصور الطفل وساهم في نشرها وترويجها يعتبر مشتركا في الجريمة، فمن أعطى الحق لكل هؤلاء بتشويه صورة هذا الطفل واستغلالها في مقاطع ساخرة، وجعله دعاية للتحرش على وسائل التواصل؟ وخلاصة القول .. هي أنه من الواضح أننا نشهد منذ مطلع الألفية الثالثة وربما قبل ذلك بسنوات معدودة، تحولات اجتماعية كبيرة نتيجة للانفتاح الكبير على المجتمعات الأخرى، بسبب ثورة التقنية والاتصالات التي استطاعت تحويل العالم إلى قرية مصغرة، وهو ما يجعل مواجهة هذه المتغيرات أمرا مستعصيا، وخاصة مع تنامي استخدام وسائل التواصل الافتراضي التي من الواضح أنها أداة مؤثرة وسريعة الانتشار، وليس أمامنا متسع من الحلول المتاحة، سوى التمسك بالتوعية بدور الآباء والأمهات في متابعة أبنائهم فالأسرة هي النواة في الحفاظ على المجتمع وثقافته وموروثاته الإيجابية، بالإضافة إلى تطوير فاعلية الجهات المعنية بالتوعية والتي يقع على عاتقها مواكبة هذه التطورات ودراسة كيفية التعامل مع هذه السلوكيات الدخيلة، وتبقى أخيرا، الأنظمة والقوانين الرادعة، وتحديدا، يجب تحقيق الاستمرارية في تطوير آليات تطبيق أنظمة مكافحة الجرائم المعلوماتية لملاحقة المخالفين وردعهم. أما مقطع الطفل -محور قضيتنا- في هذا المقال، فهو يضع أمامي عددا من التساؤلات المحيرة، لعل أهمها: لماذا غاب دور الهيئات والجمعيات المعنية بحقوق الإنسان ورعاية الأطفال وحمايتهم من الانتهاكات؟! لماذا لم تكن هناك ردود أفعال تصدت ودافعت عن هذا الطفل عندما انتشر تداول صورته وامتهانها دون حساب؟! ... من سينتصر له؟!